شيء ما
عن تجربة المخرج "طارق صالح"...
الشخصيات الأفتراضية في حياتها الواقعية...
طاهر علوان...
ربما نكون امام تحولات ملحوظة ومهمة على صعيد ادماج الصور المتحركة مع الصور الواقعية ، بمعى ان تكتسب الصور المتحركة اشكالا واقعية و تجسر الفجوة مابين تلك الحياة في الصور المتحركة مع صور وملامح الشخصيات والأماكن في حقيقتها الواقعية ، ربما يكون ذلك في حكم تحصيل الحاصل نظرا للتطور التقني الهائل في استخدام برامج الكومبيوتر وبرامج التصميم والرسم بشكل خاص التي صارت تقدم يوما بعد يوم نتائج مذهلة ومتقدمة لم تكن في الحسبان ولم يكن احد ليتوقعها وهي تتسارع في كل يوم .
لكن المسألة لاتكمن في الأنجذاب للجانب الشكلي من الموضوع بمعنى الأعجاب بالأشكال وجمالية
التصميم الذي ربما يستهوي قطاعا عريضا من متابعي هذا التطور ولكن المسألة تتعدى ذلك الى ماهو ابعد ، الى الوصول الى المستوى الذي تتمكن فيه
الصور المتحركة من الأفصاح عن دواخل الشخصية ومشاعرها وردود افعالها ونقل الجو العام المحيط بها وهذه
كلها تتكامل في شكل جديد من الأدماج مابين الشخصيات الحقيقية والشخصيات الأفتراضية والخيالية .
وتبرز تجربة المخرج والمصمم والرسام السويدي من اصل مصري (طارق صالح ) من بين التجارب الرائدة في هذا المجال ، لاسيما وانه تنقل من الرسم والتصميم والتلفزيون الى السينما والى الرسوم المتحركة وكل هذه الحصيلة تراكمت عنده في سن مبكرة في سنوات عيشه في السويد حتى عد اليوم واحدا من ابرز الفنانين السينمائيين السويديين والذي تجد اعماله رواجا واهتماما كبيرا في المهرجانات الدولية والعروض العامة .
تجربة طارق صالح ثرية ومتعمقة في صنع الشخصية وفي السيناريو المتقن ، وهو يعمل على تجذير شخصياته ومنحها عمقا وفاعلية ، فهي حتى وان كانت افتراضية فأنها ابنة بيئتها وتحمل هما انسانيا واقعيا ، وبموازاة ذلك يعنى طارق صالح بطرح شخصياته بشكل مبتكر في مجال الرسوم المتحركة فهي شخصيات تتميز بملامح واقعية تماما حتى انك لاتستطيع فصلها عن الوجوه الحقيقية او الأفتراض انها مجرد رسوم متحركة .
ويحرص المخرج ايضا على ان تكون رسالته متكاملة ومتعددة المعاني ، تنطوي على غزارة في الوعي والفعل ، وهو تحوط مقصود بقصد ان تقترب الشخصية الفيلمية اكثر واكثر من المشاهد فيتفاعل ويتعاطف معها ويجد فيها مايؤهلها لأن تكون وتحيا نابضة بالحياة .
في تجربة طارق صالح ايضا غوض في اشكالات متعددة وعلاوة على ذلك السعي لأن يكون الشكل المعروض على الشاشة ، شكلا منحوتا من الواقع ، وفيه كثير من ملامح الواقع وكذلك فيه ملامح من الحياة الأفتراضية ، مما تجود عليه موهبته في التصميم والرسم واستخدام برامج الكومبيوتر المتقدمة ثلاثية الأبعاد وهي من دون شك مهمة ليست سهلة ان تصل بفيلم روائي يستخدم هذا الأدماج مابين الشخصيات الأفتراضية والحقيقية ومعالجتها من خلال افلام الرسوم المتحرك هو تحد كبير لاسيما عندما يطرح فيلم بهذه المواصفات ليعرض في المهرجانات المعتادة التي تتسابق فيها الأفلام الروائية الأخرى .
فيلم ميتروبيا
في فيلمه الأحدث (ميتروبيا ) يخوض طارق صالح تجربة جديدة من خلال طرح نوع من الأفلام المستقبلية فيما يشبه الخيال العلمي المدمج بفكرة واقعية ، ففي هذا الفيلم تقع الأحدث في اوربا المستقبلية ، وفي عالم سينفد البترول منه عما قريب ولنتخيل عالما بهذا الشكل ، اوربا بلا بترول سترتبط ببعضها البعض بشبكات معقدة من المواصلات خاصة قطارات الأنفاق ، هذه الشبكة ستتحول الى اخطبوط عملاق من الصعب الأحاطة به ويشعر المرء بالعجز عن ان يجد مكانه وسط تلك الدوائر المتلاحقة من شبكات النقل المرتبطة بنظام الكتروني متطور .
وكلما دخل (روجر) – الشخصية الرئيسة في الفيلم ، كلما دخل هذا النظام المعقد ، شعر وسمع اصواتا لغرباء يهمسون في اذنيه ولا يجد روجر حلا الا بالبحث عن شخص مايجد له تفسيرا ما لهذه الأصوات وماهي ومن اين تأتي ؟ وتكون نجمة الأعلانات والشخصية الأقرب الى لغة العصر التكنولوجي هي الشخص الأنسب الذي يمكن ان يجبيب روجيه على تساؤلاته ، وبدلا ان تتكشف له حقائق تلك الشبكة الغرائبية فأنه يجد نفسه كلما غاص عميقا في ذلك العالم التكنولوجي مع نينا يجد ان المسألة تزداد تعقيدا ، وهو في كل الأحوال ليس بالشخصية الودودة ولكنه انسان بسيط وحائر فيما يجري حوله ، عالمه يزداد اضطرابا وتعقيدا وحياته الزوجية تتميز بالبرود والرتابة ، ولعل الشيء الوحيد المهم بالنسبة له هو اعادة اكتشاف ماحوله ولهذا تراه يركب دراجته ويجول في عالم مقفر انقطعت فيه خطى الناس ولم يبق الا هو في ذلك العالم المجهول فيما هو يجول المكان على دراجته الهوائية دون جدوى ،وبموازاة ذلك فأن هذا الشخص القلق يجد نفسه منذ الوهلة الأولى منجذبا الى امرأة واحدة هي نجمة الأعلان التي تروج لنوع من الشامبو وبالرغم من انه حليق الشعر الا انه يصر على شراء واستخدام ذلك النوع من الشامبو الذي يمتزج مفعوله مع ولعه بالتطلع الى صورة نينا الفاتنة ،فهو شامبو نينا التي يعجب بها ، وتبقى صورتها وظهورها على الشاشة عالقا في ذهنه متخذا شكلا اقرب الى الخيال منه الى الواقع ، فكيف اذا تمثلت نينا امامه ، كائنا حيا ، كنقطة ضوء في عتمة تلك الشبكات الهائلة من خطوط الميترو ، اجل هي هناك وسط الضجيج ، واذا به بالقرب منها يكلمها وتكلمه بعد ان يلاحقها وتكتشف ملاحقته لها ويعترف هو بذلك لتقرر انها ستغير حياته رأسا على عقب، وذلك عندما يكتشف ان الأصوات التي ترن في رأسه وتخبره بما يفعل ومالايفعل وترافقه في حياته اليومية هي ليست اوهاما او اصواتا متخيلة بل هي اصوات حقيقية ، وتصدر عن شخص واحد ، يرسل صوته عبرمجسات خاصة وذلك عن طريق التأثير الذي يسببه الشامبو الذي تروج له نينا اذ تتحول الشعيرات يفعل ذلك الشامبو الى مجس يتسلم ايعازات من ذلك المصدر تحثه على فعل اشياء وكذلك تحثه على مزيد من الأستهلاك والأدمان على شامبو نينا وهي مؤامرة تقودها نينا وابوها وشكرات كبيرة .
الرسوم المتحركة لم تعد للأطفال فحسب
هذه الخلاصة تجيء من اوراق مهرجان السينما الفانطازية في بروكسل في دورته الثامنة والعشرين تعليقا من لجنة النقاد على فيلم المخرج طارق صالح الذي عرض في المهرجان حيث شاهدناه هناك ، فهذا الفيلم يخرج الرسوم المتحركة حقا من نمطية المشاهدة التي جعلتها نوعا قريبا من عالم الطقولة بعيدا الى حد ما عن عالم الكبار ، لكن ميروبيا في نظر الكثيرين هو فيلم كافكوي يقترب من علم كافكا في مسخ الشخصيات وانسحاقها تحت وطأة الواقع فالشخصيات في فيلم طارق صالح تعيش غاليا في اقبية وكل شيء تقريبا مغلف باللون الرمادي والناس تعيش في عوالم منفصلة ، انها اوربا 2024 ، التي تسيطر عليها ثقافة الأخ الأكبر ، النظام الأستهلاكي الذي يتسلل الى عقل الفرد من خلال نزعة الأستهلاك بل انه ابعد من ذلك انه يقترب من تخوم عالم جورج اورويل ويطلق نوعا من افلام الرسوم المتحركة التي تحاكي الواقع الأنساني وتقدم لنا شخصيات متأصلة بالواقع ولكنها تعيش فصاما مريرا وعزلة وقلقا في مجتمع غاب عنه الكثير من الحب والأمان والراحة وسيطرت عليه مسحة رمادية كئيبة غلبت على الأماكن واحاطت بالشخصيات .
يوظف طارق صالح هذه التقنية مستخدما الصور الفوتوغرافية ويلتقط وجوها من الحياة ، من الشارع ، باستثناء الممثل (اليكساندر سكارسجارد ) الذي ظهرت شخصيته على الشاشة مأخوذة من شخصيته ووجهه الحقيقي ، ولاشك ان كل شيء ماعدا ذلك يستفز المشاهد ويبعث في داخله تساؤلات عدة تتحدث عنها الناقدة "ناتاشا سينجانوفك" في مجلة (هوليوود ريبورتر) قائلة ان ما يثير اشكالا في هذا الفيلم على الرغم من كل مافيه من مقومات وعناصر النجاح هو حبكته ، فهي حبكة اقرب الى الروح الروائية من خلال عرض وجهات النظر والتفاصيل ابتداءا من طريقة بناء ومعالجة شخصية روجر ، الشخصية الرئيسية الأشكالية في الفيلم هذه الذي تستنبت ( مايكرو جيبس ) في دماغه دون ان يدري لغرض السيطرة عليه وتوجيهه نحو مايريده مصممو ذلك النظام في السيطرة على افكار وتوجهات الآخرين .
بموازاة ذلك وايضا بالرغم من العناصر العديدة التي انجحت الفيلم الا ان ردود افعال الشخصيات ربما لم تكن بالصورة التي يفترض ان تكون عليها حيث سارت على وتيرة ونمطية واحدة متكررة ولم يكن هنالك من تحول رافق تحولات الشخصيات ، فاكتشاف روجر لسر الصوت الذي يصرخ في رأسه لم يرافقه تحول في الشكل الفني ، في التصميم ، في الأضاءة في افعال الشخصيات فضلا عن ان هنالك من يعيب على الفيلم استخدام اللغة الأنجليزية بلكنة امريكية لجميع شخصيات الفيلم مع ان الفيلم سويدي ولاتدري ماهي اسباب هذا الأستخدام وماهي اهدافه .
عن طارق صالح
هذا المخرج كما يشير موقع (اتمو) السويدي هو من مواليد السويد (1972) وينحدر من اصل مصري ، واخرج حتى الآن العيديد من الأفلام التي حصدت الجوائز وخاصة مع بداياته مع الفيلم الوثائقي وتعد مؤسسة ( اتمو) من المؤسسات الرائدة في السويد في مجال انتاج الرسوم المتحركة وطارق صالح هو احد مؤسسيها وسبق له ان اخرج وانتج وصمم العديد من افلام الرسوم المتحركة القصيرة .
بدأ طارق صالح حياته رساما كرافيتيا ودرس الفن في ستوكهولم واخرج المجلة السينمائية الوثائقية (Alive in Cairo) عام 1995 .
ثم نشر مجلته باللغة السويدية (اطلس) .في سنة 2001 . اخرج مع ايريك جرانديني فيلما عن موت تشي جيفارا وفي العام 2003 اخرج لصالح التلفزيون السويدي مسلسلا دراميا (حلم فريق العمل ) .واستمر بالعمل في هذا الحقل اذ شارك مع المخرج السويدي فريديرك لندستروم في انتاج اعمال اخرى ونال سنة 2007 جائزة احسن عمل تلفزيوني ثقافي من التلفزيون السويدي وهو معروف بكونه مخرجا تلفزيونيا ومعدا ومؤلفا وايضا محاورا جيدا على الشاشة .لكن عشق طارق صالح للرسوم المتحركة دفعته الى جانب اخرين الى تأسيس مؤسسة ( اتمو) المتخصصة بأنتاج الرسوم المتحركة والتي انتجت العديد من افلام الرسوم المتحركة القصيرة.
"ميتروبيا " هو آخر واحدث افلام طارق صالح وشارك في العديد من المهرجانات في اوربا وآسيا وامريكا والشرق الأوسط ومازال يطوف المهرجانات.
يمكنكم مشاهدة مقدمة فيلم " ميتروبيا " ولقطات منه على هذا الرابط:
http://www.atmo.se/film-and-tv/metropia/..
ويمكنكم معرفة المزيد عن طارق صالح ومؤسسة اتمو على هذا الرابط
http://www.atmo.se/about/tarik-saleh/