تجربة المخرجة (كاترين مونتوندو) في مجال الفيلم القصير
في قراءة الفيلم القصير سنكون ازاء ثنائية تتعلق بشكل الفيلم القصير كنوع ابداعي وبناءه التعبيري ..ومابين هذه الثنائية سيجد المبدع في فن الفيلم ان حركية الفيلم تمضي الى غائية تعبيرية تتفاوت بحسب قدرات المبدع .
من هنا نجد ان الشكل التعبيري في الفيلم ستتلخص في سلسلة كثيفة من المعطيات التي تشكل جوهر الفيلم وقوة بنائه ، فمن منطلق الشكل البصري المرئي يستند الفيلم القصير الى تتابع يقوم على التأثير قوامه تلك البنية البصرية الكثيفة التي تتداخل فيها مكونات الصورة وبنائية المشهد واللقطة .
انها سلسلة بنائية عميقة تتواشج فيها المكونات المكانية بالشكل البصري ويتطلب هذا ادراك الموازنات التي تحقق للفيلم كينونته التعبيرية .
ان هذا المهاد البصري هو الذي يجري التأسيس عليه من منطلق كثافة الفيلم القصير زمنيا والحاجة الى طاقة تعبيرية بصرية تصل بالمشاهد الى التأثير.
وفي المقابل تبدو اشكالية الفيلم القصير مثار جدل يتجدد القراءة الفيلمية المجردة ، هذه القراءة الأشكالية التي لاتبحث في الفيلم الا عن ( حكاية ) ، الحكاية ، القلق المضني الذي يختصر الكائن في انه كائن حكاء ، انسان ما يقرأ حياته على انها حكاية طويلة تمتد بامتداد فطرة السرد التي غرست في الكائن ذاته .وسرعان ماتكتسب المسألة اطارا اوسع عندما يجري تحليل الفيلم على انه نمط من انماط التلقي وبذلك ستتكون سلسة تلقيات ترتبط ربما في وجه من الوجوه بالحكاية ذاتها .اذا ... هنالك من يحكي ومن يحكى له ... وكانت مطولات الف ليلة وليلة دالة على هذا النمط المتشابك للمرويات وللبناء الحكائي المجرد ... وعندها ترسخ وجود كائن نهم للحكاية مولع بالنهايات السعيدة ، مأخوذ الى نمطية تغريبية تفرغ اي شكل من محتواه سوى محتواه الحكائي...لكن ... اذا كان هنالك تدفق متكامل للبناء ... تدفق لهذا المروي الشامل والكثيف والمتنوع الذي ورثه المتلقون من اساطين الدراما ومن مدرسة ارسطو اساسا ... اذا كان هنالك مثل هذا التدفق المعبر عن البنية الروائية ... فماذا عن تلك المساحة الزمانية / المكانية / الحكائية للفيلم القصير ؟اعتاد جمهور الفيلم على تلك السيرة الشائقة المتكاملة التي يمثلها الفيلم الطويل بينما استكان المتلقي حائرا في ( اين يضع الفيلم القصير في اولويات المشاهدة التقليدية ؟ ) فهو ليس الفيلم التسجيلي الذي طغى عليه الحس الخبري والذي عمق كينونته ( الأندلاع ) التكنولوجي الممثل في الفضائيات والتوابع الأرضية ، حتى صار فيلما اخباريا / سياسيا اكثر من انتمائه الى بول روثا او جريرسون او بازيل رايت او غيرهم .
من هذا المنطل تبدو تجربة المخرجة الفرنسية من اصل امريكي (كاترين مونتوندو ) من الثراء والتنوع في مجال الفيلم القصير مايستحق التوقف عنده مليا . فتجربة مونتوندو تقدم حصيلة بصرية وافرة مدركة وواعية لأشتراطات الفيلم القصير وبنيته التعبيرية وهي تمزج مابين الخصائص البنائية للشكل وبين الأمساك بنوع من الواقعية في تقديم الشخصيات على الشاشة .
ففي فيلمها المهم ( زائرو الليل ) تعيش المخرجة شخصيات الليل اذ تجري احداث الفيلم في ذلك الزمن المحتشد الذي يحف بالشخصيات ..يبدأ الفيلم من ثنائية النور / الظلام حيث يجلس رجل في مواجهة طبيبة العيون التي تقرر ان ان لاامل لمريضها في استرجاع بصره لكن المريض يعلن محتجا انها كانت قد وعدته باجراء عملية جراحية يمكن ان يستعيد بها بصره ..لكنه يخرج محبطا ..وتبقى اصداء كلماته تتردد فقي ذهن الطبيبة وتلاحقها اصداؤها وهي في الطريق عائدة في المساء الى بيتها . يمزج الفيلم منذ البداية بين بقعة ضوء لمصباح مع بقعة الضوء التي تحف بحدقة الشاب الجالس لغرض الفحص الطبي .
يهيء الفيلم مشاهديه لهذا العالم : النور والظلام من خلال غوص الطبيبة في عالم الكائنات الليلية ، وهي تحاول ان تركب الباص فتجده مكتظا وتذهب الى المترو وهناك يبدأ فصل جديد من عالم الكائنات الليلية حيث يلاحقها شاب مجهول ، واينما ذهبت تجده وراءها ، ولهذا فأن اماكن الليل تتوع بين محطات واماكن مهجورة وطرق يكتظ فيها مشردون ..وتعيش هي دوامة هذا العالم الليلي لكن ماكان يقلقها هو هذا الكائن الغريب الذي يلاحقها ..و مالم يكن متوقعا هو ان يكون الشاب هو الآخر اعمى وانه لايتبعها بل هو يسير في طريقه بغير ما هدف .
يقدم الفيلم كثافة تعبيرية مستثمرا المكان الذي بدا عالما مقفلا للشخصيات اذ قدم عدد من التجاورات المكانية التي احاطت بالشخصيات في تلك العتمة المجهولة ، فالمحطات الموحشة كانت مكانا لملاحقة الطبيبة من ذلك الشاب المجهول ، ولم يكن هنالك مايثير او يلفت النظر غير العتمة والمصابيح الكابية . ومع هذه الأجواء القاتمة الا اننا لانلمس رد فعل حاد او شعور بالفزع او الهلع لدى الطبيبة ، بل بدت اكثر تسليما بما حولها متعاطية مع الموقف والمكان وحتى مع الشخصية التي تلاحقها ، حتى تبدو انها في سيرورة متكاملة قوامها الشخصية الرئيسية هذه مع سائر الشخصيات .. وبموازاة ذلك يبدو واضحا الأتقان في الأيحاء بالزمن الفيلمي وزمن السرد ، فالزمن يمضي الى غائية مجهولة لكنها برهةزمنية لعرض شريحة من الشخصيات التي تعيش في اجواء تلك المساحة الزمانية الكثيفة .
ان هذا المسار الزماني قدم بنية سردية تنوعت فيها وجهات النظر لكن وجهة النظر للشخصية الرئيسة على رغم احاطتها بالمشاهد والبناء الفيلمي الا انها كانت جزءا من البناء السردي المتكامل .
وتمضي تجربة المخرجة مونتوندو في تقديم رؤى فيها قدر كبير من التنوع الا انها تعزف على وتر الذات المحاصرة المأزومة التي لاتجد لليل بديلا للتعبير عن تلك الأزمات ..ففي فيلم ( الميترو) هنالك شاب كغيره من عابري السبيل الذين يركبون الميترو في الليل من بين العديد من العابرين ..لكنه يحمل قلقا ما مجهولا وتوترا ينسحب على نظرته لما حوله ..وتجده يعتصر ورقةصغيرة ينظر اليها وهو يحملق في الفراغ يتوقف الميترو وينزل الناس وهو من بينهم ، يأتي ميترو آخر فيقع حادث ما ، حادث يوحي بأن شخصا ما قد القى بنفسه تحت عجلات الميترو .
هكذا بكثافة زمانية ومكانية وايحاء كثيف وبلا كثير من التفاصيل ولا حوارات ، تكتمل اشكالية السرد الفليمي في سياق هذا الأطار الزماني الضيق الذي يضيق على الشخصية ذاتها .
ان هذه المعطيات تجري احداثها في تلك العتمة ووسط كائنات الليل التي تولع المخرجة في تتبعها . لكن هذا الأيحاء الواقعي المتكامل في ذلك الفضاء الليلي لايقدم حكاية تفصيلية مباشرة بقدر البحث في ثنايا الذات والوصول الى تأثيرات متنوعة تتباين وتتنوع بتنوع المشاهدة .
ان تجربة المخرجة كاترين مونتوندو يمكن النظراليها من زوايا متعددة فهي تطرق ابوابا عدة فيما يتعلق بالشخصيات وبنائها ، فشخصياتها تعيش سيرورة حياتية طبيعية تماما بل تشعر انها جزء من رتابة الحياة ودوامتها اليومية ولهذا فهي تحافظ وبتمكن على عفويتها في التعبير ولاتدخل في كليشيهات الأداء وهي برغم المساحة الزمانية الضيقة والمحدودة الا انها تبحر في انفعالاتها وتقدم سلسلة من الأحتمالات التي توفر متعة في المشاهدة وحتى في التعاطف مع الشخصيات ، فشخصياتها مثقلة بهموم انسانية ولكنها تقدم كل ذلك في اطار تعبيري كثيف ومبسط وانساني .
في المقابل فأن طبيعة الحياة الليلية للكائنات كما هي في الحياة تقود الى سيرورة بطيئة الى حد كبير ، وربما رتابة الى حد ما ، لكن المخرجة في تقديمها لكائناتها الليلية قدمت فيلمين متميزين حقا في اطار تجربة متميزة تستحق الأهتمام والدراسة