الواقعية السحرية في افلام المخرج اريك رومر...
فيلم (حكايةالخريف، 1998) انموذجا....
فيونا أي . فيليلا...
...Viona A.Villella
فيونا اي فيليلا تعمل محررة مشاركة في موقع احاسيس سينمائية وناقدة سينمائية مقيمة في ملبورن – استراليا....
ترجمة د.طاهر علوان
(لقد اعتاد المشاهد و لمدة طويلةعلى ترجمة الإشارة البصرية، وإلى استخراج حقيقة مفادها : لماذا كل صورة هناك لها القابلية على تقييم الواقعية البسيطة.)
إيريك رومر
قدم فيلم حكاية الخريف، شخصية ماكالي Magali (بياتريس روماند ) وهي تشرح لصديقتها القديمة إيزابيل (ماري ريفيير ) نوع العلاقة الحميمية التي تربطها بحقول الكروم . كانت ترسم تضاريس الموقف كما لو كانت ترسم بريشة فنان، تحترم وتعبر عن خواص الطبيعة ، وخلال هذا بدت رافضة ومعارضة ان تتحول تلك العلاقة بالمكان الى علاقة عمل او تجارة بينما الواقع يحتم ان يستغل المكان من اجل عملية صناعية فضلا عن التصدير الذي ترتبط بالمنتوج الزراعي .
الشيء نفسه يمكن ان يقال عن المخرج اريك رومر وعلاقته بالواقعية والتي تتمثل في صناعته للفيلم . ومن المنطلق الشكلي والأسلوبي فـأنه لم يفرض وجهة نظر او تفسير محدد من خلال الأفلام التي انجزها كما انه يتصنع احساسا او زمنا .في مقابل هذا وجدنا رومر وقد راقب بدقة شخصياته وحالاتهم بطريقة مستقلة او منفصلة ، محايدة ،بسيطة وجديرة بالأحترام .
لقد تعامل رومر مع الواقع من اجل ان يولد ايقاع من ذلك الواقع ، تأثيره و تعقيداته وكل ذلك من اجل اكتشاف وتقديم الجمال وروحه الكامنة .لقد كانت ميزة افلام رومر انها افلاما آسرة للمشاهدين وذلك من خلال طابعها المادي والحسي عبر تلك الواقعية الفيلمية اصوات زقزقة الطيور ، لعبة الظل والضوء وانعكاساتها على وجه روسين ( الممثلة اليكسيا بورتال ) في فيلم حكاية الخريف ، إبتسامة إيزابيل في تلك اللحظة وكأنها يعاد اكتشافها ، ثم اثر الريح المتدفقة وهكذا. هذه لحظات هي لحظات "واقعية سحرية".
ان حالة المخرج رومر هي فريدةُ حقا . بالرغم من أن خبرته كانت قد بَدأتْ بين متطرفي الموجةِ الجديدةِ في السينما الفرنسيةِ، فأن رؤيته المحددة وخاصة كلاسيكياته المقترنه بأسلوبه الشفاف في صناعة الفيلم كانت مختلفة كليا عن اساليب اقرانه السينمائيين . لقد كانت افكاره السينمائية اكثر قربا من افكار اندريه بازان (وهو كان مقاربا له في العمر ايضا ). خلال الستّينات و' السبعينات وهي حقبة الحداثة المتعسكرة ، لم يكن رومر يخشى ان يتحول الى مجرد مخرج كلاسيكي . وكما قال يوما في مقابلةأجريت معه في سنة 1971: سؤال : - "ماوجهة نظرك عما يجري للفيلم الآن ؟ هل تعتقد بأن نوعا جديدا مِن السينما سيأتي إلى الوجود؟ الجواب : "بالنسبة لي ان ماهو جديد حقا هو تلك الأفكارِ التي لاترتبط بزمن ".
في بيان مشهور كشف رومر عن رؤيته للسينما : "ليست السينما كما ستنتهي او تؤول بل بكونها تعبر عن وسائل ". ان تقنيات السينما،هي اولا و قبل كل شيء، لها قابلية فريدة لإعادة إنتاج الحقيقةِ بشكل دقيق مع ذلك فأن هذه الرؤيةِ تتقاطع مع وجهة النظر المحافظة والجوهرية تجاه العالمِ، انها تمرر أسلوبا متفردا في صُنعِ الأفلام. ان ميزة رومر انه إنساني ومعتدل؛ تعرض افلامه نقاطَ الضعف، التشويش، عدم استقرار الشخصيات كلحظات "صغيرة" ولكنها تقدم بطريقة غير مألوفة .
في مقابلة اخرى ضمن مائدة مستديرة مَع عدد من النقاد ، يؤكد رومر ارتباط الواقعية التي يؤمن بها بمرحلة الفيلم الصامت وتحديدل بأعمال لوميير .
يقول : من خلال هذه الأفلامِ فقد بقينا مع بإنطباعِ اننا نرى العالم بعيون مختلفة . انها افلام تجعلنا نتعلم كيف نعجب بأشياء لم نكن نعلم بها وكيف نعجب بها في اشكالها الأصلية .الناس تسير في الشوارع ، الأطفال يلعبون ، القطار يسير ، لاشيء غير معتاد لكن هذا هو مدخل الأحساس بالدهشة وهي في قناعتي المسألة الأكثر اهمية " .
اضافة الى ذلك كان رومر يُؤمنُ بالجمالِ الضروريِ للعالمِ ومثل هذه اللحظاتِ "العاديةِ"، هي الطريق التي يصور من خلالها هذه اللحظاتِ إلأستثنائيةُ. بواسطة التأطير و والقطع الدقيقِ، لفت إلأنتباه إلى لعبة الضوءِ الطبيعيِ ، تصميم الصوت الذي يندمج بنص بأصوات الحياة الحقيقية . أفلام تحرك فينا دهشة المشاهدة حقا .وكما هي الموسيقى، فأنك ترى الشخصيات وهي تتحرك برشاقة، وبشعور عميق وعاطفةِ تتوارى خلف المظهر الرسميِ.
بالرغم من أن الفلمِ والموسيقى يتشابهان في التركيبِ والتأثير، الا ان قوانينهما تختلفُ بشكل جذري. ان السينما بأعتبارها فنا ادائيا ، فأنها تمتلك قوتها من خلال فعل الأكتشاف وعرض الحقيقةِ في صلابتِها وقوتها المادّيه.وعند المخرج رومر نجد ان بناء المشهد السينمائي يتضمن اعادة تقديم القصة من خلال اية وسائل مادية ، المظهر الفيزيائي للشخصيات ، كلماتهم ، نغمات اصواتهم فضلا عن التأطير والمونتاج .
السينما حتى في الأفلام الروائية هي اداة للأكتشاف ،ولأنها شاعرية فأنها تكشف المزيد ، ولأنها تكشف فأنها شعرية .
ومما لاشك فيه ان اهتمام رومر وحرصه على تقديم الأشياء كما هي فأنه يبعد تأثير التقنية التي تؤثر في صنع الميلودراما ( لهذا فأنه لايستخدم الموسيقى في افلامه ) وأية تقنيات يمكن القول انها تفرض وجهة نظر على واقعية رومر ، ان سمة الوضوح والتماسك في رؤية رومر قد اوجدت سينما أسطوريةَ مبكّرةَ فضلا عن الظهور الأولَ للعالمِ الذي تمت اعادة إنتاجه ميكانيكياً؛ ان الأنطباع الأول لإنتقال الأجسامِ عبر المكان ؛ السحر في التَأْطير والأقتراب من الحقيقةِ؛ كل هذا يقود الى التساؤل العجيب الذي يظهر على السطح في كلّ يومِ وعن الذي يجري تصويره واعادة انتاجه من خلال الضوءِ والزمان والمكان .
على نقيض هذا كله نجد ان رومر يمزج ( ويحقق موازنة بين مايمزج ) ، يمزج واقع صناعة الفيلم ببعده النصي والمادي - والمحصلة هي ايروتيكية الواقع .. ومع السرد الهوليوودي الذي يتميز بالشفافية . إنّ الميلَ الى ماذكرناه آنفا صار سائدُ جداً في آخر عرض لحكاية الفصول الأربعة من ( حكاية الخريف 1998 ).
على خلاف فيلم حكايةِ الصيفِ (Conte d'ete، 1996) وأفلام سابقةاخرى له ، فأن رومر لايبني القصة على ايام قد خلت ، وحيث يعلن عن ولادة يوم جديد من خلال العنوان الثانوي ، الذي لَه دور في تَصعيد التأثير "الأنثوغرافيِ"هذه الأفلامِ. في فيلم حكاية الخريف هنالك القطع المونتاجي والأحداث جديرة بالأهمية . مع ذلك يَبقى الأحساس "ألأنثوغرافي جديرا بالأنتباه وذلك على مستويات الصوتِ والصورة، وعلى مستوى تفصيلات الزمان والملمس وطبيعة الشخصِية.
وامتدادا للطبيعة الأنسانية التي تتميز بها افلام رومر فأننا نلمس وفاءه للشخصية والمكان في تلك الأفلام لِذلك تجده يبني وينظم عناصر مهمة في افلامه مثل :عمر الشخصِية , عرض فترة محددة من حياتِها، التاريخ الذي تقع فيه الأحداث في السنة ، الموسم ، اليوم، الوقت من ذلك اليومِ ثم المدينة والبلد.
فمثلا فيلم حكاية الخريف يركز من البداية على تقديم الموسيقى والغناء للتعبير عن حياة القرون الوسطى .
في بداية الفيلم هنالك الأصوات الواضحة لزقزقة الطيور مع ظهور تدريجي للصور مؤطر بعناية ، ثم لقطات للشوارعِ الضيّقةِ والطويلةِ , ثم ملمس البنايات في تلك المدينة الصغيرة وكلها تزج بالمشاهد في ماهو محدد وآني. ان من هو معتاد على مشاهدة افلام رومر يعلم جيدا ويتوقع انه سيشاهد كل هذا بالرغم من ان اغلب مشاهد الفيلم كانت قد صورت في اماكن طبيعية وحقيقية ساحرة .وهنا لابد من القول ان رومر لاينغمس في رومانسية عالم الطبيعة مطلقا ، ( وماذا ترى بأمكان المرء ان يحدد بالنسبة لصانع فيلم سياسي ) في المقابل فأن مايأسره هو عمليا هو العالم اليومي لشخصياته .
وعلى سبيل المثال، هنالك الإتّصال الفطري بين الفتاة ماكالي ومزرعة الكروم التي تلعب دورا مهما في حياتها ، وحيث تقدم المشاهد في وادي منطقة الراين وحيث شخصيتها الحيوية والصلبة وحيث تظهر وهي في المقدمة دائما ، مسيطرة على اطار الصورة كما لو كانت تسير على النبات بثقة وبلا مبالاة وهي تقود ايزابيل .
في ظل هذا كله سيكون من الصعب التغاضي عن الجمال الفطري للريف وللقرية الصغيرة التي تم بناؤها لأجل هذه القصة فضلا عن الطريقةالعملية للأيحاء بشكل حساس ومتقن للمشاهد في سياق احتفالي بالحياة . حكاية الخريف هي وصية واقعية ذات بعدإنساني , هي إحتفال بالحياة وبكل حالات غموضها وتشوشها . وهناك الكثير مما يقال عن تلك الحبكة البلورية التي تقدم صورة ما للقرون الوسطى ، انها خريف الحياة ، انها الحقبة التي يفترض فيها العالم ان الأشياء في اماكنها الصحيحة ، او يجب ان تكون كذلك ، وحيث هنالك درجة معينة مِن إلأنجازِ والأحساس بالسعادة قد تم بلوغهما ويشعر المرء بالأستقرار لدى بلوغ السنوات الأخيرة من العمر .
وفي كل الأحوال فأن رومر يكشف من خيال ازيائه المعتادة والبارعة عن كل هذا الغموض والشك ، مشاعر الخوف وعدم الراحة لدى شخصياته وهي في منتصف العمر .
ويقدم الفيلم شخصية ماكالي المحنكة صانعة النبيذ وهي تعيش وحيدة ، اولادها وزوجها قد غادروا ، وهي في حواراتها مع صديقتها ايزابيل تكشف عن وحدتها . ومن بين ذلك مشهد متميز اوحى بهذا الأحساس مباشرة تدفق في العاطفة الممزوجة بالألم والأحساس العميق بالوحدة. ولعل الكلمات المتبادلة بين الشخصيات تفصح عن مجموعة من المعطيات : الخط المتتابع للأفكار ، الأيقاع والتأطير ، الأسلوب العفوي والمباشر ، وكل هذا مع مظهر ماكالي القوي والغليظ لتتباين كلها في لحظة واحدة مع الشعور بالأنكسار الممزوج بالرغبة في الأندفاع .
ثم يأتي موضوع ايجاد شريك لماكالي ليمثل القوة الموجهة للسرد والمحور الذي من خلاله تتجه افعال ودوافع ايزابيل وروسين .
ان تردد اصداء شخصية ماكالي من خلال شخصية ديلفين (الممثلة ماري ريفيير ) في فيلم في الحرير الأخضر (1986)،وحيث يتم التعبير عن الأحساس بالوحدة بشكل متحرك و بشكل مؤثّر وشاعري مِن قِبل رومر في إيقاعات تعبر عن لحظات الأحساس بالوحدة. ان الأحساس العميق لدى ديلفين وقد تجسد في الشعاعِ المواكب للحظات الغروبِ - وكان أداء رومر هو الأكثر وضوحاً في هذا الفيلم بالقياس الى باقي أفلامِه. إن التشابهات بين الحرير الأخضر والحكاية الخريفية واضحة في عكسِ رومر الرائع للأدوارِ والشخصِيات من خلال المشاهد المصنوعة بعناية في كلا الفيلمين .
ولنعد إلى فيلم حكايةً الخريفً. فكما تتبعنا إيزابيل في لقائِها مَع جيرالد (ألين ليبولت )، الرجل الذي يرد على إعلانَها، واللقاءات الأخرى التالية ، فأن الدوافع بدت متزايدة ولكنها تثير التساؤل. لقد انفقت مزيدا من الوقت مع جيرالد ثم مع ماكالي ،ورغم ان ايزابيل تظهر وكأنها مبعوث قادم من اجل ماكالي فقد كان هنالك احساس كثيف يربط بين إيزابيل وجيرالد كصديقين لاينفصلان بسهولة .تستشعر الشخصيات بهذه الكثافة : ايزابيل شبه ثملة وفي حالة استرخاء وتعبر عن رغبتها في ان تكون مرغوبا فيها بينما يرتعش جيرالد قليلا وهو بالقرب منها ولقد بدا قلق إيزابيل في اللقطة الأخيرة وتأكيد عدم ركونها للراحة وهي تتساءل "انى لرومر استكشاف كل هذا بتلك البراعة؟" .
وتبدو روزين مثل نموذج مثالي عند رومر مثل كائن يافع ، جذاب الشكل ، يتسم بالبراءة ، لبقة ومهذارة في الحديث عن علاقات الحب ، وهاهي تنذر صديقها معلمِ الفلسفة السابقِ ، بأنّهم سَيرون بعضهم البعض بشكل مؤقت وحتى يعثر هو على إمرأةً أخرى وبعد هذا سيكونون مجرد أصدقاءَ. لقد كان ذلك الفعل الذي يعكس نزعات إيزابيل في موقفِها المقلقِ نحو الحب والرغبة .