شيء ما ..عن الباحث عن مشكاة وسط ظلام الذات وسطوة لأخر
"لقد صمم كل شيء على أن يحصل كل فرد على فرصة لإذلال شخص آخر وأعتقد ان طقوس الإذلال الآن لا تقل عن الماضي أو بالأحرى أصبحت أكثر تقدماً". برجمان فقدت الأوساط الثقافية والسينمائية في العالم اجمع شاعر السينما وفيلسوفها الكبير السينمائي السويدي انجمار برجمان الذي اعلن عن وفاته في السويد في اليوم الأخير من شهر تموز يوليو الماضي .وبذك خسرت السينما والثقافة في العالم على حد سواء احد العمالقة الكبار في ميدان الأبداع المتعدد الأوجه . فقد جمع هذا المبدع الكبير عبقريات متعددة سواء في ميدان السينما او المسرح او الشعر او النقد او كتابة السيناريو والنصوص الأدبية ، جمع كل هذه في بوتقة ابداعية واحدة من خلال انجاز مايزيد على 50 فيلما سينمائيا وضعف ذلك من الأعمال المسرحية وقد عبر عن نفسه من خلال نبوغه المبكر . اذ كان برجمان قد ولد في مقاطعة اوبسالا السويدية سنة 1981 وتلقى تعليمه فيها حيث درس علوم السينما وتعمق مبكرا ايضا في دراية المسرح وانطلق في فضاءات الأبداع كاتبا ومخرجا وشاعرا وناقدا منذ منتصف الأربعينيات وتألق في اعقاب الحرب العالمية الثانية. ومنذ ذلك الحين بدأ نجمه بالسطوع اذ كان معنيا بأعادة اكتشاف الذات الأنسانية قبل اي شيء آخر ، متجاوزا كليشيهات السينما السائدة ، غير متأثر كثيرا لابالسينما الأمريكية ونمطها الهوليوودي المعروف ولا سينما البلدان الشيوعية آنذاك من خلال ماعرف بمدرسة الواقيعة الأشتراكية . وبموازاة ذلك فقد ظهر برجمان في وسط جيل من العمالقة الكبار في السينما في العديد من بلدان العالم اذ كانت الواقعية الجديدة في ايطاليا قد بلغت ذروة منجزها من خلال اعمال دي سيكا وفيسكونتي و انطونيوني ثم فليني وبازوليني والأخيران اتخذا منحى آخر غير سابقيهما من المخرجين الأيطاليين وفي المقابل كانت السينما الفرنسية والألمانية تقدم المزيد . وسط هذا الضجيج والتنوع ظهر برجمان متلمسا طريقه وسط هذا المنجز العالمي الكبير ..وكان الأنسان والذات الأنسانية المأزومة هي رأس اهتماماته ، وكانت شخصية المرأة عنده محور اساس . ولعل الملفت للنظر هو تكريسه موضوعاته دونما مواربة للتعبير عن سطوة الآخر على الذات: الأب ، الأم ، النظام الأسري ، الكنيسة ، الأيديولوجيا ولهذا كانت شخصياته تعيش صراعا صامتا مع تلك القوى الفاعلة ولعل ذاكرة اي مشاهد لأفلام برجمان لن تغيب عنها صورة النجمة العالمية ليف اولمان التي ظهرت في العديد من افلام برغمان مجسدة ذلك الشقاء الأنساني . شاعر السينما في وسط هذا ، سنتساءل :ترى من أية زاوية سنرى حياتنا التي نريد أن نرتقي بها الى مرتبة الشعر؟ تلك الصور المقدسة التي تحتوي اللحظة ؛ كما يقول شيلي، ولأية غائية تتحرك الصور التي تحتشد بجذوة الشعر وتتخذ لنفسها تعبيرها الخاص، منذ افلام برجمان : (صراخ وهمسات) و(التوت البري) و(فاني والكسندر) و(بيرسونا) و(وجهاً لوجه) و(سوناتا الخريف) و(ايفا) و(أسرار امرأة) و(الختم السابع) و(ساعة الذئب) و(عاطفة آنا) و(اللمسة) و(الصيف في مونيكا) ، ألا نلاحظ بأننا (مشوشون) في إدراك تلك البداية الموهومة التي ألقاها علينا النمط الأمريكي ـ خاصة في أعمال (اوليفر ستون) و(بيكنباه) و(سبيلبرغ) وسواهم. فمع هؤلاء نبحث عن حلقة أخرى من العنف لدى ستون خاصـة بعد عمله (القتل بالغريزة) وكذلك لدى (بكنباه). وعن حلقة أخرى من كائنات الفضاء الغريبة أو الحيوانات المنقرضة، فابحثوا عن ذلك التتابع الوهجي المجهول مع سينما (برجمان)، انه ببساطة منذ انبثاق (مشاعر الذات ) الحائرة وسط سطوة الأب ـ الكنيسة في آنٍ معاً واختناقات الصبي برجمان ازاء سطوة جده أو جدته كما يروي في مذكراته وغلظة الآخر وسيكولوجيا الإذلال التي ظلت تتفجر في أفلامه.. يقول: "لقد صمم كل شيء على أن يحصل كل فرد على فرصة لإذلال شخص آخر وأعتقد ان طقوس الإذلال الآن لا تقل عن الماضي أو بالأحرى أصبحت أكثر تقدماً". منذ لحظة الإحساس تلك استنبت برجمان الصور ووجد ان أحاسيسنا تضيق بها تلك القصص الملفقة المليئة بالرصاص والدم والحقد والكراهية التي أتخمتنا بها ماكنة الغرب السينمائية، أما أن تثقف الحواس وترتقي بالنوع الفني الى مصاف القوة والإشعاع، فذلك ما نشعر ازاءه بالهيبة والثقة بهذا الفن الرفيع. ولذا فان تلك السينما هي التي يعنى بها برجمان وما دام قد اقترب من تخوم الدهشة، فقد بزغ عالم فلسفي خالص، فلسفة الذات الإنسانية عقلاً وعاطفةً ووعياً متحرراً، وليست تلك ارهاصات الشاعر وهو يكتوي بلظى وعيه ويسقط على تحولات زمنه ما تعتصره ذاكرته وانثيالات حزنه. ان برجمان، شاعر السينما الفذ سيُساء فهمه مراراً إذا ما أقدم كتّاب الأعمدة والارشيف على استعراض سيرته على طريقة ولد وعاش ثم يبدأ تسلسل أفلامه زمانياً فقط ، فهذا الذي أتحف ذاكرة العصر بأكثر من 50 فيلماً أُتيح لنا مشاهدة أروعها وأهمها، صار يُطلق عليه لقب الملك، فهو الذي قاد التحول عندما توغلت روح لغة السينما في ثنايا المحكي والمعاش الى اللاوعي المقفل، ولم يعد من مكان لسؤال تقليدي قديم مفاده (هل وفى الفيلم للحكاية)؟. ان ذلك العالم المشبوب المغلق الذي تنطلق من (نواته) حكايات لا تحصى ما انفكت كاميرا مدير تصويره في جلّ أفلامه وصديقه (نيكفست) تلاحقها بلا هوادة.. وأعطت خلالها الممثلة (ليف اولمان) أعمق ما تعبّر عنه المرأة التي يقيم معها برجمان أشد وأوثق العلاقات الساخنة المتحولة، التي لا تعرف لها نمطية البداية والنهاية، وإن هي إلا حوارات كحوارات ذاتنا في اللحظة حتى اننا نزيح في أثناء العرض البرجماني المبهر شيئاً من أثقال (جيمس جويس) و(بروست) في كل ما يخص الذات الإنسانية، وتيارات وعيها وانثيالات الزمن بالنسبة لها، حتى نأتي لتيار وعي فيلمي وأزمنة فيلمية خاصة. شعرية السرد يكرس برجمان الشكل السينمائي للتعبير عن تجليات الذات ، فهو يغوص في وعيها والمكبوت في لا وعيها، ولذا فالشخصيات كأنها معزولة عن أزمنـتها ولا يتوانى عن كشف إنسانيتها المفرطة وهي بسبب ذلك تنطق بحوار شعري تتقطع ففيه الأواصر أحياناً لتحل محلها الرموز والإيحاءات، فهو غير معني بالتتابع الحكائي بقدر عنايته بتتابع الأزمة، (الأم الأنانية في سوناتا الخريف والفتاة المعاقة). وهو ينشد اضاءة تلك العزلة المحببة التي تحولت الى وعاء للشخصية لا تشعر ازاءه بغرابة، انها تمارس أدوارها كما يفترض فيها الآخرون ذلك الاخلاص لتلك الأدوار، والنسق الشعري مفتوح من جهتين: الأولى توظيف الحوار الشعري المحمل بأثقال البُعد النفسي وتداعياته، والجهة الثانية جماليات الصورة التي يصنعها بعناية فائقة (نيكفست) مدير التصوير المفضل لدى برجمان، كما ذكرنا، ولذا تلتحم الصورة بحوارات الأزمة التي تحيل الى نسق شعري فريد ومتدفق. إن الصعوبة والأشكالية إنما تكمن ـ فيما يخص أعمال برجمان ـ هي أين تضع هذه الأعمال تحت أية خانة وأي نوع، فهي أعمال اجتماعية ونفسية وإنسانية في آنٍ واحد لكنها فوق ذلك متدفقة في بنائها الشعري والسرد فيها قائم على احالات متداخلة ماضوية، خبرات مطمورة (وجهاً لوجه) وأحزان وخبرات قاسية وكلها تتناغم ليتدفق الحوار المحمل بالشجن والمأساة. سينما بيرجمان تختصر لغة السينما وتذهب بعيداً باتجاه الاستعارات والرموز الشعرية، وكل الخبايا الشخصية تغدو أموراً عابرة لا تثير الغريزة ولا تؤجج الإثارة، بل انها جزء من تلك التساؤلات المتعلقة بالذات وهي تواصل اجتياز أزماتها والغوص في اشكالياتها. ولا ينتظم الراوي في نسق تعبيري محدد ، بل هنالك كم كثيف من المروي المتدفق عبر رواة جانبيين وافتراضيين يعبّرون عن الأزمة والعزلة والأمل في آن واحد.