كعادتي في آخر كل عام ..اشاهد فيلما اختتم به مشاهدة عشرات الأفلام ..وهاانني اعرض لهذا الفيلم المتميز انسانيا وجماليا ومعالجة وموضوعا ,....
مما لاشك فيه ان هذا الفيلم الذي مازال يتنقل في الصالات الأوربية وشارك في مهرجان كان ضمن تظاهرة نظرة ما ،هو من الأفلام المتميزة حقا ..وينقل صورة متوازنة وموضوعية عن جانب صغيرمن الحياة الفلسطينية آخذين بنظر الأعتبار انه لم يقل كل مايتمنى الكثيرون ان يقال في شأن القضية الفلسطينية ولكنه ليس برنامجا تلفزيونيا على اية حال ولامقالة صحافية بل هو فيلم سينمائي ذا تكاليف ومن انتاج غربي
................
مابينك والبحر الف حكاية وحكاية ..جكاية اجيال نحتت في صخر وجودها باحثة عن خلاص ..عن بديل ..ففلسطين والبحر صنوان ، تتجاوران وتحكيان قصة امواج من الأحزان والخراب ..لكن ان يأتي يوم ينتصب في الجدار الفاصل بين الناس والناس بين الذاكرة والأمل ولايستطيع فلسطيني ان يقطع بضعة مئات من الأمتار كي يرى البحر وعرائس البحر ، المدن البحرية كيافا وحيفا وغيرها فذلك ماكان خارج التوقع والممكن
ولعلها تجربة اخرى ، بعيدة عن الضجيج والبيانات والخطابات تقدم عليها المخرجة من اصل فلسطيني آن ماري جاسر والمقيمة في الولايات المتحدة من خلال فيلمها ملح هذا البحر ..وهو الفيلم الذي يعرض حاليا في الصالات الأوربية وعرض في مهرجان سينما المتوسط الذي اقيم في العاصمة البلجيكية بروكسل مؤخرا وحضي باهتمام ملحوظ .
رحلة ثريا بين الأرض والأحتلال
يبدأ الفيلم بلقطات وثائقية لعمليات جرف بيوت وتحطيم ممتلكات الفلسطينيين ابان حقب خلت من عمر الأحتلال الصهيوني لأرض فلسطين .ثم لقطات للبحر ثم نتابع بعدها لحظات دخول (ثريا ) الفلسطينية الأصل الأمريكية الجنسية (الممثلة سهير حماد) التي تقرر القدوم من مكان اقامتها في بروكلين لزيارة الأماكن التي هاجرت منها وعاش فيها اباؤها واجدادها وبما فيها مدينة يافا .
ونتابع مع بداية رحلتها الطويلة مراحل التفتيش والتدقيق في هويتها والتحقيق معها وتكرار اسئلة مملة وطويلة من قبيل لماذا جاءت ؟ واي جواز آخر تحملين ومن تهدفين ان تزوري وتجيب على اسئلة محققين عديدين بكل هدوء و عفوية وتجادلهم في انها من هنا وجذورها هنا .
ثم تأتي صديقتها لتقلها بسيارتها وتبقى معها مدة من الزمن لكن هدفها الكبير هو ان تكون في يافا ملاعب الصبا . وخلال ذلك تقرر ان تذهب الى البنك حيث اودع جدها مالا في الماضي وتسعى هي لأسترجاعه ..ولكن مدير البنك يخبرها ان ماكان قبل الأحتلال في 1948 انتهى ولم يعد لديها مال او لأسرتها مادامت قبل ذلك التاريخ .
وتزور اصدقاء لها وتشاركهم وجبة طعام يصادف ان يحضرها مدير المصرف نفسه وهي تجادل لماذا كل هؤلاء المترفين يكنزون الأموال والآخرين لايملكون شيئا .
وبالصدفة تشاهد عماد العامل في المطعم (الممثل صالح بكري ) وهو يركب سيارة قديمة فتنظم اليه ويذهب بها ليعرفها بأسرته التي ترحب بها .
وتقرر ان تعمل في المطعم الى جانب ( عماد) ..وبالفعل تبدأ بذلك الا انها سرعان ماتختلف هي وعماد مع صاحب المطعم والذي لايدفع اجورهما ثم يقرر طردهما بسبب الملاسنة معه .
وتتعرف على مروان صديق عماد(الممثل رياض عديس) الذي يحلم بالتصوير السينمائي واخراج الأفلام بكاميرته البسيطة ..ثم تقترح عليهما اخيرا ان يقوموا بسرقة بنك من البنوك وبالسلاح ولكن دون اطلاق طلقة واحدة ويؤيدها عماد ويسطون على احد البنوك بعد ان تتنقب وترتدي الزي الأسلامي لاتبرز منه سوى عينيها ، واما عماد فيرتدي الكوفية الفلسطينية التقليدية لاتبدو منها سوى عينيه ويبتزان موظفي البنك ويهددانهم وتطالب هي بنفس المبلغ الذي يفترض ان جدها قد اودعه في ذلك البنك قبيل 1948 بينما يكون مروان بانتظارهم في السيارة العتيقة.
وتنجح الخطة وعندها يقررون الذهاب الى يافا برغم الحواجز الأسرائيلية حيث يعتمران الطاقية الأسرائيلية ويعبران الحواجز بعد ان تخدع الشرطة بهم على انهم من اليهود وبسبب الطاقيات التي يعتمرونها .
ويدخلون حيفا وتستطيع ثريا ان تصل الى منزل جدها الذي تسكنه الآن سيدة اسرائيلية من دعاة السلام ولكن اصرار ثريا على استرجاع حقها في منزلها وسخطها من احتلال تلك المرأة لمنزل العائلة يدفع المرأة الأسرائيلية الى طردها ..بينما تحتفظ تلك المرأة بمروان الذي يقرر البقاء والعيش معها.
ولايجد عماد وثريا بدا من السكنى في منزل مهجور يهيئانه لنفسيهما مضطرين اذ لابديل امامهما سوى ذلك المكان وتكون تلك المعاناة القاسية سببا لأقترابهما من بعضهما والحلم بحياة تجمعهما معا ..ولكن مجرد ذهاب ثريا الى دكان قريب يكون كافيا لأن تأتي دورية الشرطة مطالبة بأوراق عماد حيث ليس معه اية اوراق ولهذا تكون نهايته ان يلقى القبض عليه وعلى ثريا .
الشخصيات وتحولاتها
يقدم الفيلم شخصيتي ثريا القادمة من بروكلن وهي المهيأة نفسيا للواقع الذي ستراه ومن الممكن ان تراه ولكن دون ان تتوقعه، ولهذا ستكون في مواجهة بلاد لاتفرق بين فلسطيني يحمل جوازا اوربيا او امريكيا وفلسطيني تحوم حوله الشبهات ..الكل واحد ، فمادام فلسطينيا فهو مشكوك فيه وهو مايقع لثريا في مرورها بحواجز عدد من المحققين قبل ان يؤذن لها بدخول الأرض المحتلة .
ويقدم الفيلم سلسلة من المحققين كل منهم على درجة عالية من التميز في الأداء ..واما ثريا التي يجري استفزازها في كل مرحلة من مراحل التفتيش والتقصي حولها فأنها تقدم صورة رفيعة للأداء المتوازن ، فهي تجمع بين سيطرتها التامة على ردود افعالها وكل حركة وسكنة منها وبين قدرتها على النفاذ وسط ذلك العالم ذو القبضة الحديدية من اجهزة الأمن التي تفرض سيطرة تامة على كل شيء وقد حولت حياة الفلسطينيين الى جحيم حقيقي .
ولكن ماذا تريد ثريا وماذا يريد عماد ؟ انهما لايطالبان بمعجزات ولا خوارق وليست لديهما طموحات ضخمة ، انها مطالب اكثر من عادية وطبيعية يمكن ان يطالب بها أي انسان ، ان يعيش عماد بسلام حاصلا على قوت يومه ، لكنه لايحصل على ذلك وليس امامه فسحة من الأمل في المستقبل ، فحياته معاناة طويلة وبلا جدوى ، ولهذا يحلم بالهجرة الى كندا او السفر الى هناك لغرض الدراسة ، لكن ذلك الحلم لن يتحقق ايضا .
واما ثريا التي تتمتع بجمال انساني غريب ، وملامح انثوية وديعة ومسالمة فهي الأخرى تشعر ان احلامها البسيطة لاتتحقق ان تشعر ان هذه البلاد التي جاءت منها تحمل لها شيئا من الوفاء ولاتتنكر لها ، لكنها لاتجد امامها سزى الحواجز والجحيم اليومي والتنكر لأنتمائها للزمان والمكان .
لكن كلا منهما : أي ثريا وعماد يعبران بأنسانية وعذوبة عما يجيش في خواطرهما فهما ليسا عدوانيين ولا يبدلان الغطرسة الأسرائلية بمثلها بل انهما يحاججان بهدوء وصبر ولكن النتيجة واحدة وتنتهي بألقاء القبض على عماد من لدن الشرطة لأنه لايحمل اوراقا رسمية .
البناء السردي
فضلا عن الأداء يمكن القول ان الفيلم قد تميز في جوانب عدة منها السيناريو والبنية السردية للفيلم ، فقد اوجد الفيلم موازنة مووضعية مابين شخصياته وطموحاتها وتحولاتها وكشف من وجهات نظر وزوايا متعددة حقيقة اساسية تتمثل في الأحتلال ، اذ توازنت في هذا وجهات نظر ثريا القادمة من امريكا مع عماد المكتوي في كل يوم بنيران الأحتلال .
مع انه من الملفت للنظر مناقشة ظاهرة تحول شخصين مسالمين كثريا وعماد الى شبه ارهابيين فالأولى ترتدي النقاب وتتلفع بالملابس السوداء والثاني يتلثم كما هم مقاتلوا الحركات الفدائية ..اذان هذا التحول يضع علامات استفهام حقا ومنها : هل ان سلطات الأحتلال من الغباء بحيث ينفذ من قبضتها اشخاص يسطون على بنك وكل ماهنالك انهم يرتدون قلنسوة اسرائيلية وهذا وحده كاف لعبورهما ؟
يضاف الى هذا تحول قضيتهما الكبيرة في التعبير عن معاناة شعب بكامله الى مغامرة صغيرة بدخول اسرائيل والوصول الى حيفا ثم وقوعهما في قبضة السلطات ..
لكن هذا وغيره طغت عليه مسحة انسانية عميقة ومؤثرة تجعل أي مشاهد لايملك الا ان يتعاطف مع عماد وثريا ..
.....................
الفيلم : ملح هذا البحر
سيناريو واخراج: آن ماري جاسر
تمثيل : سهير حماد (ثريا) ، صالح بكري(عماد) ، رياض عديس (مروان)
تصوير: بينوا شاميلار
مونتاج: ميشيل اوبينون
2008