الأرهاب والحروب والأغتراب في حلبة المنافسة على الجوائز
د.طاهر علوان – القاهرة
لاادري ان كان من المهم ان ابدأ الكلام عن مهرجان القاهرة بالحديث عن ملامح موازية تكمل مشهد المهرجان وتحيط بتشعباته وتفصيلاته واجواءه ...لكنني بكل تأكيد لااستطيع ان افصل القاهرة المهرجان عن القاهرة الحياة والثقافة والتاريخ ، ربما كان هذا هو المفصل الهام الذي يمنح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي تميزا مضافا .
فالمهرجان يستمد عناصر مهمة من قوته في امتداده بامتداد الحياة والمكان ، لايمكنك وانت تعيش المهرجان الا ان ترى انسان النيل المبحر في الزوارق الصغيرة والمراكب ، مشهد لم يفارقني بعد كل عرض فيلمي اعود فيه الى غرفتي او الى بهو الفندق او الى المركز الصحفي او لتدوين ملاحظاتي في مكان ما ، فمن هنا الى هناك بامتداد البصر تسير الحياة في النهر منذ الاف السنين بينما اطفـأ المهرجان شمعته الحادية والثلاثين في هذه الدورة .
بموازاة ذلك ستجد ان هذه (السينما ) ليست ترفا شخصيا ولا مهنة لشريحة خاصة من النجوم والنجمات ، ستجد ان السينما هنا هي امتداد آخر لولع شخصي يجمع شرائح عريضة من المشاهدين من عشاق الفن السابع الذين يتدفقون كل يوم الى صالات العرض المتوزعة في القاهرة ، حتى انني كنت الحظ بتعجب قدوم عجوز لاتقوى على السير حتى باتكائها على عكازها ، كنت الحظ قدومها شبه اليومي الى صالة (كود نيوز) لمشاهدة عروض المهرجان هذا فضلا عن طلبة السينما من مختلف الأعمار وطلبة الجامعات وجيل شاب فرح بما يشاهده .
منذ اللحظة الأولى تجد ان وراء المهرجان ثقلا كبيرا من جهة دعم وزارة الثقافة صاحبة المهرجان والجهات الراعية ولهذا وفرت لضيوفه اجواءا تعبر عن حفاوة كبيرة سواء من ناحية الأقامة او من جهة الخدمات والتسهيلات في التنقل وفي العمل الصحافي .
بالطبع يتكامل مع كل هذا انك لاتستطيع الا ان تكون ضيفا على خان الخليلي نهارا او ليلا وعلى الجامع الأزهر والحسين والسيدة زينب والأهرامات والمتحف الوطني وازقة نجيب محفوظ .
هكذا اصرت رانيا ان تصحبني الى مايعرف مجازا : الى قاع المدينة ، الى قصر الشوق حيث استمد نجيب محفوظ روايته ومررنا بالجمالية حيث عاش الكاتب الكبير وبالأزقة الضيقة والحياة المسالمة التي يعيشها الفقراء في تلك الأماكن التي لم اجد فيها الا مشاهد طالما عرضتها السينما المصرية عبر تاريخها ، ثم تتكامل الصورة مع ذلك التراكم الهائل من التماثيل والأيقونات الفرعونية التي تحف بالمرء من كل جانب ، كانت رانيا ساعتها تحاول ان تخرجني من ميدان العتبة المكتظ بأية طريقة لكننا امضينا الوقت في اكتشاف المكان حتى احتضنتنا مقهى على الرصيف وجاء الشاي على (مية بيضة) وسائر السلسلة المعلومة من المشروبات الساخنة المصرية والأطعمة التقليدية .
من كل هذا سنذهب للمهرجان ..مشاركة كبيرة وافلام تتوزع على العديد من صالات العرض ولايمكن للمرء الا ان يشاهد نسبة محددة من عدد الأفلام المعروضة في اقسام المهرجان وهو مانوه عنه الدكتور عزت ابو عوف رئيس المهرجان في الكلمة الأفتتاحية من جهة تنوع الأفلام المشاركة في هذه الدورة وغزارتها ، وحيث نجحت ادارة المهرجان في تقديم حفل افتتاح متميز وانيق حقا ، بالطبع كان هنالك نجم المهرجان ، رئيسه الفخري ، عمر الشريف ، الذي تحدث بكثير من الود والحميمية وقدم لجنة التحكيم الدولية للأفلام الروائية الطويلة للمهرجان وهم كل من : نيكولس روج – بريطانيا ، نورجول بسيلكي – تركيا ،ساندرا نشأت – مصر ، جيلالي فرحاتي – المغرب ،هشام سليم – مصر ،كريستوف زانوسي – بولندا ،زانج جنتشو – الصين ، الديكو انيادي – المجر ،سو- ري مون – كوريا ، تلدي كورسي – ايطاليا ، محمد صالح هارون – تشاد .
اضافة لذلك ، هنالك لجان تحكيم اخرى لكل قسم من اقسام المهرجان وهي :
لجنة التحكيم لمسابقة افلام الديجيتال
لجنة التحكيم للأفلام العربية
لجنة التحكيم لأتحاد الصحافة السينمائية الدولية
اما المكرمون في هذه الدورة فهم كل من احمد رمزي و نبيلة عبيد ونور الشريف و احمد صالح وراجح داوود و مصطفى محرم ومن بريطانيا نيكولاس روج ومن امريكا مات ديلون وايمي مولين و هارفي كيتل وكوينسي جونز ومن الجزائر الأخضر حامينا .
وقد اتسعت اقسام المهرجان بشكل اتاح تنوعا ملفتا في العروض فبالأضافة الى مسابقات الفيلم الروائي الطويل والسينما العربية وافلام الديجيتال هنالك قسم : مهرجان المهرجانات و قسم للسينما المغربية والرومانية والتركية الجديدة وقسم للأفلام المثيرة للجدل فيما كانت السينما المحتفى بها لهذه الدورة هي السينما البريطانية .
وسط هذه الكثافة من الأفلام المعروضة سنبحث عن تلك السينما التي في الذهن والتي من خلالها تم اختيار افلام واستبعاد اخرى ، الميزات والأطار الذي يجمع كل هذه الكثافة من المشاركات من العديد من بلدان العالم . بالطبع لن نجد ( فورمولا) محددة بقدر مانجد سعة في ماهو معروض الذي اتاح لفيلم شبابي بسيط الصنعة مثل ( علهوا )من مصر ان يتنافس مع فيلم حربي كبير هو العدو الحميم من فرنسا او فيلم بسم الله من باكستان او العثماني الأخير من تركيا وهذه افلام عالية الحرفية الى حد كبير .
لذا فقد تجاورت في العروض افلام على درجة متميزة من البناء والمعالجة وتنوع العناصر الفنية مع افلام اخرى ربما كانت اقل مستوى من هذا المستوى لكن القاسم المشترك كان هو تقديم السينما الأكثر قربا من ذائقة الجمهور اذ اختفت من المسابقة الرسمية مثلا انواع فيلمية اخرى كأفلام الفانتازيا والخيال العلمي والأفلام التجريبية .
في كل الأحوال سأسلط الضوء على ثلاثة افلام من بين كم الأفلام التي شاهدتها لأنني وجدت فيها ماهو جدير بالأهتمام .
فيلم "بسم الله" ..الأرهابي والفنان في حلبة صراع كونية
من اقبية افغانستان وجحور الظلام الى المدنية المزيفة والحداثة المجنونةالتي فاقم جنونها غرور العظمة ...خلاصة سمعتها من صديق ناقد قادم من امريكا اللاتينية ونحن نناقش هذا الفيلم الباكستاني الذي طاف بنا في سرد كثيف طويل متنوع الخطوط والمسارات بين لندن ونيويورك الى بيشاور وكراتشي وقرى نائية بين بالكستان وافغانستان .
بناء سردي توزعت فيه الشخصيات على ازمنة وامكنة متعددة قد تبدو ان لارابط يربط فيما بينها الا ان الفيلم اطرها جميعا على صعيد واحد وقدم حياة مشحونة مليئة بالأزمات .الشقيقان الباكستانيان منصور وسرمد يحبان الموسيقى ولديهما طموح عريض سرعان ما يتحول بالنسبة الى سرمد الى كراهية للفن والموسيقى بسبب التحريم الذي رواه له احد الشيوخ من خلال احاديث نبوية وهذا مايدفع الشاب سرمد الى ان ينخرط مع المجاميع المسلحة في احدى القرى بين باكستان وافغانستان لكنه يعجز عن قتل احد .
في لندن تعيش ابنة عمه ماريا التي تريد الزواج من شاب انجليزي ، الأب الضعيف يجد نفسه في مأزق ان سمعته في اوساط ابناء الجالية ستتأثر في حال زواج الفتاة من انجليزي ولهذا يدبر خطة بالذهاب بالفتاة الى باكستان لزيارة شقيقه وتذهب الفتاة معه لكنه يذهب بها الى القرى النائية حيث يعيش سرمد ويجبر الفتاة اما الزواج من سرمد او الموت .ويزوجها عنوة اما منصور فيذهب الى امريكا لدراسة الموسيقى وبعد تفتح مواهبه هناك تقع احداث سبتمبر فيسقط منصور المغني والعازف المرهف ، يقع ضحية الوشايات وثقافة الكراهية ضد المسلمين ويلقى به في السجن ويجري تعذيبه بوحشية متناهية حتى يخرج من سجنه وهو معاق تماما .
هذه الدراما المشوقة استطاع المخرج شهيب منصور ان يديرها بتفوق ملفت وان يمنح مشاهديه متعة فريدة اضافة الى الجرأة في تناول موضوع الأسلام والفن والمرأة وغيرها من القضايا التي اثارها الفيلم في اطار من الجدل العقلي بين من هو متشدد ومن هو معتدل .
العدو الحميم ..عن الوجه القبيح لثقافة الحرب واوهام الغزاة
هذا الفيلم الفرنسي يشكل عندي وثيقة ادانة كبيرة لجميع اشكال الغزو والهمجية التي تصاحب اجتياح الأمم واستباحة الشعوب فهو يحكي فصولا من الأحتلال الفرنسي للجزائر ، قصص مأساوية مروعة تفيض شجنا وادانة لهذه الهمجية التي ترتكبها الجيوش الغازية فضلا عن الآلام التي تصاحب الغزاة انفسهم وتقض مضاجعهم .
تتواشج في هذا الفيلم النزعات الأنسانية مع تقدم الجيوش ، وخلال ذلك يرسم الفيلم صورة وثائقية متميزة لعدد من المعارك التي خاضها الجيش الفرنسي في الجزائر وهي في الغالب معارك جرت وقائعها في قرى فقيرة واستهدف فيها فلاحون بسطاء ذهبوا ضحية ذلك الصراع الطاحن ، حتى صدق قول احدى الشخصيات في الفيلم : لااستطيع ان اكون خادما مطيعا للجيش الفرنسي الغازي لبلادي كما لااستطيع ان اكون جزءا من جبهة التحرير ..
هذا الشعور المتفاقم هو الذي سيدفع الجزائريين سعيد ورشيد للعمل في صفوف الجيش الفرنسي مترجمين وجنديين ..فرشيد مثلا قتل افراد اسرته جميعا دون رحمة على ايدي محاربي جبهة التحرير ولهذا ينظم للفرنسيين ، ولكن نهاية رشيد هي المأساوية حيث يجري اختطافه وتعذيبه حتى الموت .
و من المشاهد المؤثرة ان الفيلم يسلط الضوء على رمزين فرنسيين بالأضافة الى سعيد ورشيد وهما قائدي الوحدة العسكرية التي يعرض الفيلم لأفعالها ، الأول هو قائد ميداني (الممثل البرت دوينتل )، والثاني هو ضابط الأستخبارت ، كلاهما يشهد انها حرب بلا طائل ، حرب وصراع دام بلا نهاية انهما يتساءلان : لماذا نحن هنا ؟ لماذا منحت فرنسا كلا من تونس والمغرب الأستقلال وتركتهما وشأنهما ولم تفعلا الشيء نفسه مع الجزائر ؟ لماذا يشاع ان الجزائر هي فرنسا ؟ والى متى الصراع والقتل ؟.
هذه الأسئلة الموضوعية ترافق العمليات الحربية اليومية التي يقدم فيها الجيش الفرنسي افواجا من القتلى في مقابل افواج من القرويين الذين يقعون ضحايا هذا الصراع الدامي .
بالطبع ليس من ادانة ابلغ للحرب من رغبة القائد في الأنتحار : وفي مشهد يجد سعيد نفسه مجبرا على تلبية مطلب قائده الفرنسي ان يسلط عليه تيارا كهربائيا من محرك يدوي كي يموت بالصعق الكهربائي..لكن دون جدوى ..اذ يجبره مساعده ضابط الأستخبارات ان يتوقف عن ذلك ..لكن شيئا لن يوقفه اذ يقرر الهرب ..ويهرب فعلا في اشد صور الأدانة للحرب ..بالطبع يقدم الفيلم احصائية بعدد الضحايا من الجانبين ويعلن انها حرب مجنونة وفاشلة .
ضربات ...فيلم متقن عن الأغتراب وضد العنصرية
هذا الفيلم الهولندي للمخرج(البرت تير هيردت ) اجده احد الأفلام الأخرى الجديرة بالأهتمام فهو فيلم متقن الصنعة تماما وبالرغم من تصديه لمفردات وقضايا حساسة وهي قضية المهاجرين في المجتمع الهولندي وبالأخص الجالية المغربية هناك الا انه كان موضوعيا الى حد كبير وعرض الوقائع كما هي ، كل شيء في هذا الفيلم قريب جدا من الواقع والواقعية ، اداء عفوي وشخصيات تقترب الى حد كبير من الحياة اليومية ..
سعيد (الممثل ميمون عويسا) هو ملاكم محترف وناجح تربطه صداقة حميمية بفتاة هولندية ولديه شقيق يعمل في متجر ولكن يتم طرده بسبب تقاعسه وتأخره في العمل ومع ان رئيسه يعلن ان سبب الطرد ليس بدوافع عنصرية الا انه يصرخ انه طرد لذلك السبب .
ولسوء حظ هذا الشاب يقع في مواجهة مع رجل شرطة تنتهي بمقتله ..وهنا يجد سعيد نفسه في مأزق بسبب ضغوط ابناء الجالية المغربية للدفاع عن حق اخيه القتيل وانه يفضل علاقته الغرامية مع الفتاة الهولندية على دم اخيه وتصبح قصة مقتل ذلك الشاب موضوعا للأعلام بعد ان يتهم بأنه كان يغني في احد النوادي ضد السامية .
في المقابل هنالك مروان الشاب المغربي الآخر الذي انخرط في سلك الجيش الهولندي وتخرج ضابطا وهو في طريقه للزواج من فتاة مغربية تعمل شرطية لكنه تخبره انها فاقدة لعذريتها لتتأزم العلاقة بينهما ويتعطل زواجهما ثم لتشهد هي مقتل ذلك الشاب المغربي من قبل زميلها الشرطي وتطلب شهادتها في المحكمة .
وتمضي احداث الفيلم بمتانة وانسيابية عالية لتظهر كيف يتعامل الهولندي مع المغربي ، السيدة الهولندية مثلا تسعى لفتح منافذ لشاب مغربي حسن الصوت يريد ان يغني ويصبح فنانا معروفا اما زوجها فمشغول بتتبع القصص الواقعية التي تحدث لأولئك الأجانب .
الفيلم في كل بنائه وتنويعاته يقدم موضوعا متميزا في البناء والمعالجة كما انه نجح بشكل ملفت في نظري في تقديم ممثلين على مستوى متميز من الأداء سواء الهولنديين او المغاربة وقدم ممثلة ناجحة في هدوئها وتماسكها وعفويتها هي الفتاة التي ادت دور الشرطية من اصول مغربية وقدم سعيد الممثل المبدع الذي لاتشي ملامحه بجمالية النجوم بل كان اداءه هو الذي اطلقه نجما .
كلمة اخيرة ...
لم اكن اتمنى مع نفسي وانا اكتب عن هذه الأفلام الثلاثة المتميزة الا ان اراها متوجة بالجوائز الكبرى للمهرجان وهو ماحصل فعلا ..اذ نال كلا منها احدى جوائز المهرجان ..حيث حصل الفيلم الفرنسي على الجائزة الذهبية كأفضل فيلم في المهرجان كما حصل على جائزتي افضل مخرج وافضل ممثل .اما الفيلم الباكستاني فقد حصل على الجائزة الفضية .فيما منح الفيلم الهولندي جائزة افضل سيناريو