"تبدأ السينما حيث تنتهي اللغة"
بارت
مدخل
تبدو شعرية السرد السينمائي اشكالية تتصل بالنوع، الابداعي، وبالأسلوب، وبالمديات التي بلغها المبدع في الفيلم ابتداءً من كاتب السيناريو وانتهاءً بالمخرج، انه اطار واسع وعريض للتعبير عن نوع فيلمي محدد يجري فيه الارتقاء بمعطيات وظواهر و تفاصيل وموضوعات من مكانها المباشر والأقرب الى الواقع الى مديات الأنساق التعبيرية المتصلة بالرموز والدلالات والإحالات التفسيرية المرتبطة باللون والشكل والهيأة والحركة.
بمعنى ان المبدع في الفيلم معني بتحميل المشهد الواحد واللقطة الواحدة بإحالات لا تقدم الصورة في دائرتها المعنوية المباشرة، بل بما بعد الصورة وما بعد التعبير المباشر (META-VISION)، وربما تتسع الدائرة هذه لتفتح مديات أوسع للانتقال بالرمز والدلالة من الإطار الكتابي، الى كم غزير من الاحتمالات الفكرية والمعنوية التي تقدمها الصورة. وبهذا تنخرط التجربة في تتابع بنائي ينشد شكلاً من أشكال التعبير غير مألوف ولا مستهلك.
ولعل هذا الجانب يقودنا الى محصلات متعددة توصلت اليها التجربة السينمائية تحتم الخروج من النمط التقليدي والمألوف والمكرر الى خطاب فيلمي قادر على الصمود أمام التأويل واستقصاء البنى الرمزية، وبموازاة ذلك نجد ان أشكال التعبير الفيلمي تستوجب قدراً كبيراً من التجريب في إيجاد ذلك المنحى الأسلوبي الذي يختص بهذا العمل وهذا المبدع دون غيره.
إن هذه الحصيلة تنسحب على نمط متكامل من التجارب السينمائية التي انخرطت في التعبير الواقعي المباشر لأن واحدة من أهم خواص الصورة الفيلمية هو هذا الشكل المطبوع الذي سرعان ما يتيح تعبيراً واقعياً مباشراً، فأنت إذ تستخدم آلة التصوير الفوتوغرافية فانك تلتقط واقعاً عيانياً مباشراً معروفاً ومألوفاً في أدنى درجاته، لكن توظيف المرشحات والعدسات والإضاءة ورؤية المصور الخلاقة ستقدم شكلاً صورياً مختلفاً عما هو عياني ومباشر، شكل يحتمل كثيراً من التأويل ويمكن فرز عدة مستويات للتعبير والتغلغل في ثنايا ما هو بصري الى الوسائل والأدوات التي وظّفت للتعبير، ولا تخلو هذه الخاصية من أشكال التعبير عن حشد للمعطيات الجمالية القادرة على الارتقاء بالصورة وجعلها رسالة غزيرة بالإحالات.
ومن هنا فنحن أمام نقطة انطلاق هي نقل الواقع كما هو ، وما بعد ذلك ثمة مديات تتسع للتعبير بآفاقه التي يتخلق في ثناياها الأسلوب الذي يميز مخرجاً دون آخر ومصوراً ومخرجاً فنياً دون آخر (Art Director).
في البنية الشعرية وانتاج المعنى
ينشغل السينمائي بوصفه منتجاً للخطاب بإشكالية انتاج المعنى ، وتوظيف الوسائل التي بواسطتها تتوالد المعاني ويجري تبادلها معاً، وتشمل مواضيعها شتى أنساق (systems) العلاقة وكذلك ما يمكن أن يجري ترميزه ويتحول الى (شيفرة رمزية دالة)، أي أن تكون هنالك بنية من الرموز التي يعمد صانع الفيلم الى توظيفها من خلال تحميل اللون بالرمز وتحميل الحركة والشكل وبنية المكان برموز خاصة بعضها ظاهر يمكن استخلاصه معنوياً والآخر قد يكون باطنياً يتعلق بالنسيج الفيلمي كله. وفي كل هذه المستويات وباتجاه انتاج المعنى لابد من انتاج رسائل بين مرسل أو منشئ الخطاب ومستقبله، ولذا ستحمّل هذه الرسائل بمعطيات اشارية ودلالية ترتبط بخصوصية الفيلم، بوصفه وسطاً (سمعياً/ بصرياً/ حركياً)، فالرسالة محملة بشيفرات سمعية عبر الموسيقى والحوار والمؤثرات الصوتية وشيفرات بصرية عبر دلالات الصورة وغزارتها وشيفرات حركية متنوعة. وبذا يمكن التوقف عند هذا المعطى لانتاج المعنى عبر هذه الشيفرات من خلال ما يأتي:
1 ـ الدلالة السمعية :
من خلال توليد المعنى بالتباينات الصوتية الحوارية، وأنماط الحوار وما يحمله من بنىً دالة، إذ تحمّل الجمل الحوارية بإشارات ورموز ظاهرة ومباشرة وأخرى سيجري الكشف عنها لاحقاً. وتوظف كذلك المؤثرات التي قد تميل الى بيئة الحدث وبالتالي تقرّب الرسالة من التكشف الواقعي المكاني، أوانها تحمل إطاراً خبرياً كسقوط شيء الى قاع سحيق فالطريقة التي يقدم بها الصوت عبر المؤثر ستحمل عنصر كشف خبري وهكذا، وكذلك توظيف تباينات ارتفاع الصوت وانخفاضه والضجيج وما شابه لتخليق معطىً تعبيري عن طريق دلالة الصوت وذلك على وفق إحالات المنظِّر والناقد الان كاستي.
2 ـ الدلالة البصرية :
ربما كانت الصورة هي العنصر الأكثر غزارة لانتاج المعنى وصنع اللغة الشعرية أو المساهمة فيها على أساس ان السينما هي لغة صورة أساساً وكذلك شاشة التلفاز وكذلك شاشـة الكومبيوتر وكذلك شاشة عرض الشرائح المصورة (Slides) فكلها مساحات تتخلق على سطحها مستويات المعنى ويجري انتاج الرسائل. ونحن هنا أمام وسائط كثيفة ومتداخلة تبدأ بسطح الشاشة وأبعاده وتتسع للعمق الفراغي وعمق الميدان وتشتمل على التباينات الصورية المقترنة بـ (ثبات الكادر) ومديات الثقل التعبيري في الصورة بين اليمين واليسار والأمام والعمق، فضلاً عن الاقتراب والابتعاد، التماس التام بالشيء أو الشخص، والابتعاد عنه كلياً، يضاف لهذا البنى المكانية الظاهرة التي يتسع لها المشهد وما تحمله من إحالات واقعية أو لا واقعية. وكذلك توظيف اللون والإضاءة في تخليق هذا النسيج التعبيري.
3 ـ الدلالة الحركية
لأن فن الصورة المتحركة هو فن حركة ، ابتداءً من حركة الشريط السينمائي أو الفيديوي أو التتابع الصوري الرقمي أو تتابع الشرائح عند العرض فكلها أشكال حركية يجري من خلالها توليد المعنى فيها عن طريق تتابع الصور وانخراطها في سلسلة بصرية تشد بعضها آصرة بعضها الآخر وعبر هذا التتابع يتهيأ ذهن المشاهد لاستيلاد ما وراء الحركة بحثاً عن صلة تصله بما هو معروض أمامه، أي باستقبال الرسالة في شكلها المتحرك وتفكيك شيفراتها والتفاعل معها. و لذا سيجري تدعيم حركة المرئيات ليس بالعرض المباشر والمرئي فحسب، بل بالحركة الداخلية المقترنة بحركة آلة التصوير الى داخل الموضوع او انسحابها خارجه أو عرضها لركن منه لإحدى الجهات أو الانسحاب الى أعلى الموضوع، وهكذا مما هو معروف من أنواع حركات آلة التصوير التي نجدها بكثرة في المراجع التي تتحدث عن هذا الجانب، لكن ما يهمنا في الواقع هو ما وراء الحركة أي بالتوصل للمحصلات المقترنة بشعرية البناء ذاته وبنسق (المروي) بوصفه دالاً على شعرية السرد.
إن الفيلم هو محصلة مرئية سريعة الزوال ، فتتابع آلاف الصور تزيل معها المعنى المباشر وتنطلق من هذا المعنى الى معنىً مضمر يجري خزنه في الذاكرة، ولذا لابد من تخليق قوى (التخييل بالمشاركة)، وهو ركن أساس في هذه الآلية السمعبصرية الحركية، فالتخييل بالمشاركة هو بناء عالم خيالي مشترك بين الصورة ودلالاتها وبين المتلقي المستعد لرسم الإشارات والرسائل عبر وسائله الحسية وإيجاد الترابطات المعنوية فيما بينها ولذا ستخرج هذه الفعالية عن أُطرها السلبية، أحادية الجانب لتتسع الى تتابع متدفق يقوم على التفاعل (interaction)، تتحول فيه الصورة الى مجال حيوي قابل للتخليق المشترك، أي صنع خلفياته وإشعاعاته بشكل مشترك بين منشئ الرسالة وبين مستقبلها.
توليد المعنى والأثر في النصّ الشعري :
كنت قد طرحت رؤيتي الخاصة ، وهي فرضية جمالية تعبيرية بما أسميته بـ (الأثر)(1) عبر كتابي عبقرية الصورة والمكان، وأجد ان توليد المعنى والأثر هو المحرك الأقوى في أنساق التجربة الشعرية. فلم تعد الشعرية منخرطة في فاعلية ادائية شرحية، بل انها معنية بصنع أثر ما لدى المتلقي، والاندفاع بعيداً في ما بعد هذا الأثر من أصداء وتفاعلات نفسية محركة للمخزون المعرفي والشعوري، انها آلية إيجاد علاقات بين الأشياء والظواهر. والارتقاء بالمظاهر المرئية المشوشة الى حيز الدلالة والرمز وتحريك الذاكرة المبدعة.
وبصدد الصورة، فاننا ازاء عالم من العلاقات الداخلية المرتبة على وفق نسق خاص، يقوم على أساس الارتقاء من الحقيقة الفيزيائية المجردة الى المعنى التام. وبهذا تتشعب فاعلية الصورة في البناء الشعري الى آليات متعددة كالتجسيم والتشخيص والإيحاء والحركة وتوليد الإيقاع وما الى ذلك. وبذا يكون للصورة منطقها الداخلي بما يتيح تآزر الصور معاً ودخولها في علاقات بنائية باتجاه صنع بناء فني متكامل وليس مجرد إطار شكلي. وإذا كانت الصورة تنمّي المعنى من جهة، فانها بموجب نظرية هيوم الشعرية مثلاً تقوم على الآصرة بين المرسل والمستقبِل، ولا تخلو من إحالة الصور الشعرية الى تأطير واقعي، وما بين هذه الصور المتقابلة: شعري/ واقعي، أو خيالي/ واقعي يجري ربط الصور بإحالاتها المعنوية وحتى احالاتها الواقعية، لأن الأساس في ذلك هو (توقيف) المعنى.. لأنها فاعلية تقترن بالفضول ولذة الاكتشاف التي ينخرط فيها المتلقي.
وبسبب اقتران الصورة بالتجريد فقد أتيحت مساحة واسعة للمبدع لأن يولّد صوراً تتخذ تسميات متعددة مثل: الصورة البصرية والسمعية والذوقية والحركية والشمّية.
ولعل هذه الكثافة الصورية هي التي دفعت الى وضع أسبقيات موضوعية تقدّم صورة على غيرها، ومن ذلك ما رسخه (اليوت) مثلاً في الانشغال بالصورة السمعية فهو يتيح خيالاً واسعاً يسميه الخيال السمعي (Auditory Imagination)(2). فهو احساس بالمقاطع والإيقاع احساساً يعبّر عن مستويات التفكير والمشاعر الواعية لأكثر الأحاسيس بدائية الى أرقاها منـزلة، ولذا ما انفك اليوت مفضلاً ملتون صاحب المخيلة السمعية على دانتي صاحب المخيلة البصرية.
وبذا تداخل هذا الأثر الصوري ، سواء أكان سمعياً أم بصرياً في الوصول لحالة من حالات الذاكرة المتحررة من المكان والزمان والتي تعتمد فتنتها على واقعيتها ولا عقلانية هذه الصور بالضرورة لأنها قد تكون شبيهة بالأحلام.
وكما يذهب (ريد) بموازاة ذلك. الى ان الفيلم ينتج تأثيره بواسطة الصور المسلطة على الشاشة التي ترتبط في الحال مع الصـور المخزونة في ذاكرة المشاهد ومن ذلك الترابط أو الرصف للصور تنشأ عواطف الدهشة أو البهجة أو الحزن التي نعانيها في دار السينما.
فكذلك الصورة الشعرية تحمّل بكمٍ من الرموز التي تشكل ركناً أساسياً في بنائها، حيث يفترض "كارل يونغ" مثلاً، التمييز بين التأويلات الرمزية والتأويلات الإشارية، فالفكرة مثلاً يمكن أن تؤوّل بوصفها تعبيراً مؤازراً، كما هو معلوم، ويمكن سحب الرمز الى ما هو مدرَك وما هو مقترن برؤى الشخصية وقدرتها على استخلاص محصلات ما من ذلك الرمز. على ان تحقيق عنصر الإيهام بالبدائل التي يطرحها الرمز ليس بالضرورة أن تتضمن هذه البدائل تفاصيل جزئية كاملة للواقع، بحسب رأي (ارنهايم)، فرسوم الأطفال المشوشة وغير المنظّمة للوجه الإنساني تحقق دلالة نفسية وفنية عند دراستها، وهذا من صميم الفعل الذهني في إدراك التشابهات من مصادر متفاوتة من الرسم غير المنظّم لملامح وجهٍ ما.
إن قوة الرمز ليست في الموضوع المستعار أو المرموز له حسب ، بل تكمن في قابليته على تركيب نفسه دون ضعف للوصول الى المعاني المطلوبة. فالرمز عند كوليريج يستمد جزءاً من وجوه الواقع فهو يمتلك دلالات متعددة.
وعند تودوروف ، فإن النص الشعري(3) يتمظهر بمظاهر عدة عبر محمولاته الرمزية والدلالية، فهو يقسم تلك التمظهرات الى: فعلية وتركيبية ودلالية وبلاغية وموضوعاتية.
وأما أنظمة هذا النص عنده ، فانها تنقسم على ثلاثة أنظمة هي :
1 ـ النظام المنطقي .
2 ـ النظام الزمني.
3 ـ النظام المكاني.
ولعل الانشغال بهذه الأنظمة الثلاثة تحسم بنية النص الشعري وتحدد غائية محددة وتفترض اشتراطات تؤطره على أساس ان هذا النص قد امتلك مقومات تتعلق بحمولاته المعنوية والدلالية، فهو لا يتحرك إلا في فضاءات محددة ويسبح في مدياتها، سواء من ناحية تأكيد منطقية البناء، أم الانخراط في التتابع الكرونولوجي، وبموازاة ذلك لا يمكننا ابتسار النص واخراجه من جاهزيته المكانية وعلاقته بالقوى الفاعلة التي تجعل من المكان كلاً مكتملاً متماسك البناء.
مراجع مهمة
- Cynthia Freeland , Cognitive Science and Film Theory: October 31, 1997, Santa Fe
-
- Joseph D. Anderson, The Reality of Illusion: An Ecological Approach to Cognitive Film Theory (Carbondale and Edwardsville: Southern Illinois University Press, 1996
- Gregory Currie, Image and Mind: Film, Philosophy, and Cognitive Science (Cambridge: Cambridge University Press, 1995).
-
(1) يُنظر : طاهر علوان : عبقرية الصورة والمكان : التعبير ، التأويل ، النقد ، دار الشروق ـ عمان ، الطبعة الأولى ، 2002، القسم الخاص بالأثر من الباب الثالث.
(2) طاهر علوان : الصورة الشعرية والفيلم ـ بحث منشور ـ مجلة الطليعة الأدبية ـ ، كانون الثاني (يناير) ـ 1986، ص 112 وما بعدها.
(3) عن : أحمد يوسف في ترجمته تودوروف : الخطاب ، النص ، المؤلف. مجلة كتابات معاصرة ـ بيروت ـ عدد 8، السنة 1993، ص 49.