كان 2008
محطات ومشاهد من مهرجان كان السينمائي في دورته 61
نصف قرن ونيف ومهرجان كان السينمائي يواصل صعوده وتجذره في قلب ثقافات العالم ، مساحة زمنية شاسعة مرت فيها الأمم بحروب طاحنة وصراعات دامية ذهب ضحيتها ملايين البشر فيما مهرجان كان يغذي ثقافة اخرى ومنطقا آخر ويصنع لنفسه مكانة في نفوس عشاق الأبداع والجمال .
فمهرجان كان ليس كسائر المهرجانات في اية بقعة من بقاع الأرض اذ عجزت العديد من المهرجانات الكبرى من اللحاق وصنع هذه الأسطورة السينمائية .
فالمهرجان في اية بقعة اخرى في عرف الكثيرين لايعدو ان يكون صالة لعروض الأفلام ومنح الجوائز ، اما مهرجان كان فهو مناخ ثقافي وابداعي شامل تحتشد فيه عوامل عدة اولها المكان ، فكان المدينة المرتمية في احضان البحر المتوسط والتي لاتبعد عن مدينة رائعة مجاورة هي نيس ولاتبعد كلتاهما كثيرا عن موناكو وكلها تتلألأ على الشطآن في الجنوب الفرنسي جامعة بين الجغرافيا وسحر الطبيعة وبين قيم الثقافة الراسخة .
يضاف الى كل هذا ان شكل المدينة وانحناءاتها ومناخها المعتدل في سائر اشهر السنة منحها جمالا آخر وجعلها محل استقطاب واهتمام كل من زارها او سمع عنها .
هذه هي كان المدينة ، فأما كان المهرجان فهو مزيج لثقافات العالم ، فسينمائيي العالم ومثقفيه وجمهور السينما من كل انحاء العالم على موعد سنوي مع ربيع السينما في كان .
هنا تصبح المدينة بكل شوارعها وساحاتها ومبانيها ومقاهيها وفنادقها جزءا من الكرنفال والمهرجان ، آلاف الصحافيين ومئات القنوات الفضائية وآلاف المصورين كلهم يشكلون بعدا آخر للمهرجان ، حتى انني كنت اجد صعوبة وانا اخترق تلك الحشود الحاشدة من الأعلاميين باتجاه العروض اليومية .
ومن المعتاد ان تجد جمهورا يفترش الأرض وينتظر ساعات وساعات من اجل الحصول على تذكره لمشاهدة فيلم من الأفلام فالحصول على تذكرة ليس بالأمر المتاح للجميع ولهذا لم استغرب يوم قالت لي سيدة فرنسية انها انتظرت طوال اليوم من اجل ان تحضى بدخول واحدة من صالات العرض لمشاهدة الفيلم اي فليم وهي واقفة الآن في الطابور الطويل قرابة غروب ذلك اليوم على امل ان تحضى بتذكرة دخول .
هذا وغيره تلحظه وانت تطأ كان للوهلة الأولى لكن هنالك ماهو غير مرئي بشكل مباشر وهو سوق الفيلم الذي يوفر مساحات للشركات العالمية الكبرى لتسويق اعمالها او التفاوض لغرض الأنتاج وحيث يمكن للمرء ان يستمتع بتلك الأجنحة المتعددة للدول وهي توفر مطبوعاتها وتروج لأنتاجها .
وهنالك اجنحة خاصة للمهرجانات الدولية وقد شاهدت جناحين عربيين واحد لدولة الأمارات حيث مهرجاني دبي والشرق الأوسط والآخر للأردن .
بالطبع تجري العروض في قاعات تستوعب اكثر من الفي متفرج بطوابق متعددة هذا فضلا عن القاعات متوسطة الحجم وكلها لاتكاد تغطي امكانية استيعاب الحشود الحاشدة .
كل شيء في كان يلتهب ، مشاعر الجمهور العادي عند مشاهدة كبار النجوم وهم يترجلون من سيارات الليموزين الفخمة مثل كلنت ايستوود وداستن هوفمان وانجلينا جولي وبراد بت و شين بين وغيرهم كثير من حضروا هذا العام وكما تلتهب مشاعر الجمهور لدى مشاهدة هؤلاء النجوم فأن اسعار كل شيء تلتهب ايضا ، من الطعام الى الفنادق الى سيارات الأجرة الى كل شيء فهذه ملامح من طقوس كان واجواؤه .
ولابد من العودة الى الهوية الثقافية للمهرجان وهذه الهوية ترسخت عبر عقود طويلة رسخ المهرجان من خلالها هويته الخاصة من خلال اقسام المسابقات والشروط الصارمة لقبول الأفلام ولجان التحكيم المتخصصة ، فهوية المهرجان تتلاحم فيها جغرافيا المكان والتقاليد السينمائية التي ترسخت عبر عقود وعقود ، فمن خلال المسابقة الرسمية يتبارى كل سينمائيي العالم كي يحققوا حلمهم في كان ، ونيل واحدة من جوائزه ومعلوم ان الفوز بجائزة ولو صغيرة من كان تمنح الفائز مؤهلا اضافيا وعنصر تميز وتمنحه ثقلا في تقديم ابداعه في اوساط السينمائيين ومنح جائزة من كان يسهل دون ادنى شك تسويق الفيلم وترويجه .
بالطبع هنالك المعارض المصاحبة والندوات الصحفية اليومية مما لاعد له ولاحصر هو والمطبوعات التي تجدها في كل مكان للحاق بجدول العروض وبرمجة الوقت واللهاث من قاعة الى اخرى منذ الصباح الباكر وحتى انتصاف الليل .وعلى هذا يتأسس استعداد نفسي مسبق لدى القادمين الى كان تصنعه هذه العوامل مجتمعة .
ان من المشاهد المذهلة في هذه الأزمنة هو تحول نجوم السينما الى كائنات اخرى كأنها غير بشرية بمعنى ان هذا الجمهور العريض في كان صار يرى في النجوم المفضلين لديه اشكالا اخرى تمتلك سحرا خاصا يدفع تلك الحشود الى اللهاث وراء ظهور هذا الممثل او ذاك .
دورة هذا العام اكتظت بعشرات الأفلام من كل انحاء العالم وسأسلط الضوء عند اهمها على الأطلاق ومما لفت الأنظار اكثر من غيره.
مما لاشك فيه ان للمخرج والممثل كلنت ايستوود حضوره المؤثر في تاريخ السينما الحديث وقد جاء للمهرجان بفيلمه المصنوع حديثا وهو التغيير والفيلم يحكي قصة السيدة كولنز ( الممثلة انجلينا جولي ) التي تفقد ابنها في ظروف غامضة في اثناء ذهابها الى عملها ولاتملك الا اللجوء الى الشرطة التي تبدأ بالبحث عن الطفل . تقع الأحداث في عشرينيات القرن الماضي فيما كانت الجريمة المنظمة تفتك بالمجتمع الأمريكي وبالأخص في مدينة كاليفورنيا حيث تعيش تلك السيدة المطلقة مع طفلها .
وبسبب الهجوم المتواصل من الرأي العام على شرطة المدينة بسبب تقاعسها عن ردع المجرمين بل وتورطها برشى في مقابل التستر على القتلة والمجرمين ، كل ذلك يدفع الشرطة الى انقاذ سمعتها وتجلب للمرأة ابنها المختفي وسط حضور الصحافة فلما تحضر الأم لتسلم ابنها تجده شخصا آخر غير ابنها وتخبر الشرطة بذلك لكنهم لن يستمعوا اليها ويجبرونها على قبول الطفل . وسط هذا كله تعاني المرأة من فقدان ابنها عاجزة عن ايجاد تفسير منطقي لما يحدث ، وعندها تخبر قس الكنيسلة الذي يقود الرأي العام ضد الشرطة ( الممثل البارع مالكوفتش ) الذي يوجه خطابا عبر الراديو الى الناس ويشجع المرأة على عقد مؤتمر صحافي لفضح الشرطة وتسترها وجلب طفل مشرد لها بدعوى انه ابنها لغرض اسكاتها .
وهنا تبدأ الحرب الشعواء بين المرأة والشرطة لتنتهي بألقاء المرأة في مصحة نفسية لتكتشف هول ماتفعله الشرطة ضد خصومها ومن يقف في وجهها آنذاك اذ ترميه في تلك المصحة الرهيبة ليتلقى صنوفا من العذاب ومنها استخدام الصعق الكهربائي .
هنا تبدأ حملة مالكوفيتش لأنقاذ المرأة ولكن خلال ذلك يداهم رجل شرطة منزلا بالصدفة فيكتشف عن طريق احد الأطفال المشردين ان ذلك المنزل ماهو الا المكان الذي مارس فيه احد القتلة السفاحين جرائمه البشعة باختطاف الأطفال وقتلهم بتقطيعهم اربا ثم دفنهم .
ويقلب هذا الحدث مسار سائر الأحداث رأسا على عقب ويدفع الشرطة الى التخلص سريعا من مأزقها بأطلاق المرأة من المصحة النفسية لتكتشف ان الصحافة تتحدث عن قاتل ابنها الحقيقي الذي قتل عشرين طفلا آخرين ، وتجري ادانة القاتل واصدار حكم الأعدام بحقه .