وقبل الذهاب الى الفيلم وقراءته نقديا اجد من الطريف والمفيد ان الملم نثارا عشوائيا من التعليقات التي كنت اسمعها طافية في اروقة المهرجان قبيل العرض من اناس مختلفين :
- انه فيلم مختلف ورائع ..سوف ترى ، هذه كلمات قالتها فتاة لبنانبة جميلة ونحن في المصعد موجهة تلك النصيحة لصديقها .
- التأخير في توقيت عرض الفيلم يعود الى ان المخرجة (نادين لبكي ) مشغولة بوضع اللمسات الأخيرة لماكياجها قبل دخول صالة العرض ...تعليق ثان ..
- يااخي الناس ستحتشد لمشاهدة هذا الفيلم لمشاهدة النساء العريانة ..فقط ..
- فيلم يقوم على ضربة الحظ ومخرجته محظوظة ...انتشر وعرض في طول اوربا وعرضها مع انه فيلم عادي جدا ...تعليق آخر ..
- وهل مشكلة لبنان اليوم هي في محل الكوافير الستاتي ...تعليق آخر..
هذا الخليط غير المتشابه ولا المتجانس من التعليقات ربما سلط الضوء على هذا الفيلم بالأخص من جهة موضوعه ومازاد من اهتمامي بالفيلم ان احد العاملين في احد المهرجانات العربية في اوربا بادرني بلا مناسبة ولا سبب قبل ايام من عرض الفيلم بالسؤال : وهل شاهدت فيلم كاراميل في اوربا ..فلما اجبته بالنفي بدت عليه امارات الأستغراب اذ لفت نظري ان الرجل كان معجبا بالفيلم الى حد كبير كما يبدو ...وهو من حقه ..طبعا ..ولكن ذلك اعطاني انطباعا ما عن مساحة وعيه وذائقته ...
اما الشخص الذي قدم الفيلم للجمهور اثناء مهرجان القاهرة وقدم مخرجته وممثلاته ودعاهن للصعود للخشبة لتحية الجمهور فقد صرح قائلا : انه الفيلم الذي اعاد الثقة بالفيلم اللبناني وجعله في الواجهة ..
مدخل الى قصة الفيلم
تقوم قصة الفيلم على فكرة مفادها ان هنالك بضعة نساء يجمعهن العمل في محل لتجميل النساء – كوافير – في العاصمة اللبنانية بيروت والأحداث يبدو انها تقع في السنوات الأخيرة وتحديدا قبيل حرب العام 2006 كما هي تصريحات المخرجة .
الفتيات هن كل من : ليال – الشخصية الرئيسة - ( المخرجة نادين لبكي نفسها )، نسرين (ياسمين المصري )، جمال (جيزيل عواد ) ، ريما (جوانا مكرزل ) ، بالأضافة الى الخياطة التي تقيم قريبا من محل الكوافير : روز (سهام حداد ) .
هذه الجوقة النسوية يجمعها غالبا هم نسوي ذاتي خالص :
ليال : تعشق رجلا متزوجا لاتستطيع الأحتفاظ به وتلتقيه بين مدة واخرى .
نسرين : على وشك الزواج لكنها فاقدة للعذرية من علاقة قبل الزواج.
ريما : ربما كانت ذات ميول مثلية .
جمال: غادرها القطار الى خريف العمر وتريد جر الزمن الى الوراء بتجميل نفسها .
اما روز فهي الأخرى فاتها قطار الزواج بسبب تكريس حياتها لرعاية شقيقتها التي بلغت ارذل العمر لكنها تحلم بحب او زواج متأخر من احد زبائنها وهو رجل في خريف العمر ..
هذه هي الدائرة التي تدور فيها الشخصيات التي تشكل محور الفيلم وقصته هذا اذا اضفنا شخصيات نسوية ثانوية هن زبونات المحل مؤجلين الحديث عن الشخصيات الذكورية الى مكان آخر في هذا المقال .
احالات افتراضية
ربما كان من الواضح ان ثمة دوافع انسانية واجتماعية هي في غاية البساطة تلك التي تحرك الميول الذاتية والدوافع الأنثوية فالسؤال عن لماذا ..اي لماذ تنحو هذه الشخصية هذا المنحى سلوكيا سيحيلنا الى اجابات بسيطة في ظاهر الفيلم وقصته لأن الفيلم تحاشى تماما اية احالة اخرى لظروف اجتماعية او سياسية او غيرها تدفع كل فتاة او امرأة الى ان تسلك هذا السلوك او ذاك ..وهو ما يقطع كثيرا من التأويلات المبالغ فيها التي تحيل سلوك هذه الشخصيات الى سبب او آخر غير مطروح لاتلميحا ولاتصريحا في سياق الفيلم .
ربما كانت هذه الأحالات الأفتراضية اكثر جدوى وفائدة لو اشتغلت عليها مخرجة الفيلم فهي عناصر مضافة تعزز البناء الفيلمي وتجذر الشخصيات وتمنحها مساحة اوسع في التعبير عن نفسها كما يمنحها غنى وقوة اكبر من ناحية البناء الدرامي .
من هنا كان احباط (ليال) من صعوبة حصولها على عشيقها المتزوج هو مجرد تعبير عن علاقة بين رجل وامرأة ربما كانت غير متكافئة بسبب كون العشيق متزوجا ، هذا من جهة ، اما من جهة اخرى فأننا لانعلم ولم تشأ المخرجة ان نعلم فحوى تلك العلاقة : اهي علاقة حب مجردة ؟ ام هي علاقة جنسية ؟ لاسيما وان العاشقين يلتقيان في اماكن نائية اوخربة ...رغم الحرص التام من المخرجة على طمس شخصية العشيق فلم يظهر في الفيلم مايعرف به لاتصريحا ولاتلميحا ..كما ان ليال ستبالغ في شكل هذه العلاقة عندما تستأجر غرفة في مكان للبغاء كما قالت ، فقط من اجل الأحتفال مع عشيقها بعدما عجزت عن اسئجار غرفة في اي فندق بسبب ان تلك الفنادق تطالب بأثبات الهوية وعقد الزواج ..
اذا ..مامشكلة ليال ؟ ما هدفها في الحياة ؟ اليس غير الأحتفاظ بالعشيق المتزوج اصلا ؟ لااكثر ولا اقل ..
دوافع مجهولة
لعل الفيلم لم يقل غير ذلك بالنسبة الى ليال ..فلا نعرف من هي ولا خلفيتها ولا كيف تعيش واين ؟ وما تاريخها وما افكارها ولا كيف تكونت صلتها بالعشيق ولماذا ؟ ماالدافع : المال ، الحب ، الجنس ، غير ذلك ....هي اسئلة بلا اجابات قاطعة ..
اما اذا ذهبنا الى نسرين فسنجدها تنتمي كما هو واضح الى عائلة مسلمة بينما كانت ليال مسيحية ، نسرين تحب شابا وتريد الزواج منه لكن مشكلتها انها فاقدة للعذرية من علاقة مع شخص أخر قبل الزواج ..وهذا هو سبب حيرتها وخوفها ..لكن كل شيء سيحل بعملية جراحية تجرى لها لترميم ماافسده الدهر ..وتتوج هذه الفعالية الترقيعية لشرف الفتاة بزواج احتفالي سيرقص فيه القاصي والداني ...
وامتدادا لشخصية ليال لانعرف عن نسرين غير ماذكرناه آنفا مما قدمه الفيلم وليس غير لقاء اسري على مائدة الطعام تظهر اسرة نسرين .
اما ريما :فربما كانت لقاءاتها المتكررة لتجميل سيدة شابة جميلة فيه ايحاء بالمثلية بسبب ردود افعال وتعابير تلك الزبونة المليئة بالغنج والأيحاءات الحسية ..وتجد ريما فيها صديقة او شخصية اليفة بشكل ما .
بالطبع هنالك الخياطة روز التي كما ذكرن افنت حياتها لخدمة شقيقتها التي بلغت ارذل العمر وقد استغرقت مشاهد تلك العجوز واحاديثها الطريفة مساحة مهمة من الفيلم .
الرجال المغيبون
الشخصيات الرجالية لم تتعد اربعة شخصيات هم كل من شرطي المرور و خطيب نسرين والكهل الذي يخيط ملابسه لدى روز وعشيق ليال .
الشرطي هو الشخصية الوحيدة التي تم التعريف بها بوضوح ، فهو يلاحق ليال وهي في طريقها الى موعدها الغرامي ليثبت عليها مخالفة ، ثم يدعى الى الصالون وتحلق الفتيات شاربه ويستخدمن العجينة التي يستخدمنها لأزالة الشعر من النساء لأزالة الشعر ايضا من اماكن من وجهه ، وبعد دخوله ذلك المكان وحلاقة شنبه يخرج سعيدا ، وكذلك حال السيدة ذات الأيحاءات المثلية التي تقوم ريما بقص شعرها هي الأخرى فتخرج سعيدة تماما ...
اما ماعدا الشرطي فلا توجد شخصية ذكورية يمكن التعرف اليها بوضوح والأهم منها جميعا عشيق ليال ، الشخصية الرئيسة في الفيلم الذي ظل مجهولا حتى النهاية .
ان السؤال الذي يطرح هنا هو : ماالسر في تغييب وتهميش الشخصيات الرجالية بهذا الشكل ؟ هل اريد للفيلم ان يكون فيلما نسويا خالصا مثلا وممنوع دخول الرجال اليه ؟
وهل الحياةهنا وهناك من حول الشخصيات الفيلمية تسير هادئة بتغييب الرجل وبقدرة دكان الكوافير وسكانه على منح السعادة للناس ؟
هذه فرضية تبدو مباشرة لكنها ممكنة في هذا الفيلم ‘ فكاتبي السيناريو عمدا الى بناء مغلق علما ان فكرة الفيلم هي للمخرجة نفسها صاحبة الدور الرئيس بالأضافة الى كتابة السيناريو بالمشاركة مع (رودني الحداد ) ، هذا البناء المغلق لايمنحنا اقناعا كافيا في امور عدة من اهمها فرضية انغلاق الشخصيات النسوية وتقوقعها على ذاتها طيلة يوم العمل الطويل لدرجة ان علاقتها بما هو خارج المكان سلبية غالبا : ليال تخالف نظام السير وتشاكس شرطي المرور ،نسرين خائفة من عالم اسمه الزواج بسبب فقدان عذريتها ، واماخطيبها فبمجرد خروجه معها يشتبك مع شرطي ويحال الى قسم الشرطة ، ريما وجمال لاعلاقة لهما اصلا بما هو خارجي سوى علاقة ريما بتلك الفناة ذات الأيحاءات المثلية ولما يتحقق بينهما من لقاء خارج محل الكوافير ..
من هنا وجدنا ان البحث عن الذات والهوية والسلبية هي قاسم مشترك للشخصيات في علاقتها فيما هو خارجي ومجتمع ذكوري حتى ، لكن ما هي مبررات تلك السلبية ؟ هل تعرضت ليال مثلا الى تجربة قاسية في طفولتها او مراهقتها لتعاشر من هو متزوج ؟ هل تعرضت نسرين لأغتصاب افقدها عذريتها ؟ هل تحتفظ ريما بذكرى مؤلمة اثرت في شخصيتها لتتحول الى مثلية ؟ هذه التساؤلات لايجيب عنها الفيلم مطلقا بل ولا يقترب منها ابدا ...
هذا الشكل من البناء الدرامي مالبث ان اخذ منحى آخر من خلال عدم اشباع الأفعال والمواقف ومنها مثلا لقاءات ليال بعشيقها ، نوع العلاقة بين ريما وزبونتها ، جمال ومن هي وماعلاقاتها ، وسوى ذلك من افعال غير مشبعة في الأداء والبناء الدرامي .
الموسيقى والتمثيل
لقد لفت نظري حقا في هذا الفيلم بعدما سجلته من ملاحظات على البناء الدرامي والسيناريو والمعالجة الفيلمية ، لفت نظري الأداء العفوي الشفاف للشخصيات بصفة عامة ، فميزة هذا الفيلم هي المساحة العريضة من الأداء المتماسك الذي ربما كان وراءه تدريبا متكاملا وفهما لما هو مطلوب من الشخصيات بصفة عامة ، روز مثلا ادت اداءا متميزا وحتى المشهد القصير جدا لوالدة نسرين وهي تزجي النصيحة لأبنتها وكيف عليها ان تكون زوجة ناجحة ، هذا المشهد لفت نظري شخصيا لعفويته وصدقيته ، واما ليال التي يفترض انها محور الفيلم التي تنعكس من خلالها تفاصيل تتعلق بالشخصيات الأخرى ، هذه الفتاة المسيحية جسدت بقدر مااتاح لها السيناريو ما هو مكتوب ، وقدمت مشهدا مؤثرا بحق وهي بانتظار عشيقها في الغرفة المستأجرة .
اما من جهة الموسيقى فقد اجاد ( خالد موزانار) الذي وضع الموسيقى التصويرية للفيلم اجادة تامة اذ تواشجت في تنويعاته الموسيقية عفوية الأداء مع الهارموني الموسيقي الذي حرص على بثه في العديد من المشاهد الفيلمية .
الطابع التسجيلي للمعالجة الفيلمية
اريد ان اطرح في خاتمة مراجعتي لهذا الفيلم سؤالا محددا هو : ماذا لو كان هذا الفيلم تسجيليا وليس روائيا ، ماذا لو قلبنا المعالجة الفيلمية الى معالجة تسجيلية تختفي فيها الدراما اينما وجدت وتركنا للشخصيات ان تعيش ايامها في دكان تجميل النساء ؟ لااظننا سنفقد كثيرا جدا مما قدمه هذا الفيلم ولهذا اتمنى لو كانت هنالك نسخة ثانية تسجيلية للفيلم ، فالحياة اليومية التفصيلية للشخصيات يمكن التوصل اليها بكل تأكيد في فيلم تسجيلي لاسيما وان فيلم نادين لبكي كان مقتصدا جدا في توسيع بناءه الدرامي وفي توسيع دوافع وافعال شخصياته .
واقعيا ان الطابع التسجيلي للفيلم يشكل من وجهة نظري علامة فارقة وميزة مهمة وقداختلف مع كثير من الذين يرون خلاف ذلك ...ذلك ان اسئلة كثيرة يطرحها البناء الدرامي لم تتم الأجابة عليها كما ذكرت في متن المقالة قبل قليل اذ حرصت المعالجة الفيلمية على اختزال كثير من التفصيلات ولااقول بترها وترك الأفعال مفتوحة على افق مجهول حتى بالنسبة للشخصيات لاسيما وان الفيلم انطلق من فكرة بسيطة تماما فهو لايحتمل كثيرا من التأويلات على الأطلاق ولايتحمل اكثر مما هو عليه فعلا من خطاب مباشر ويومي ومعاش ذا مسحة تسجيلية .
لهذا كله انني لست اتفق مع من قال انه يعرض لقضايا ومشكلات المرأة العربية وهو كلام فيه مبالغة وتضخيم ، اذ ان التصدي لقضايا المرأة العربية او حتى اللبنانية يتطلب خوضا في العوامل الأجتماعية والثقافية والسياسية الفاعلة والمؤثرة في حياة النساء وهو ماابتعد عنه الفيلم تماما وتحاشى اي احتكاك مع اية سلطة كانت هذا اذا استثنينا سلطة الكنيسة ربما ودورها في الحياة في لمحة بسيطة من خلال قدوم موكب احتفالي يقوده قس ودخولهم الى داخل دكان الكوافير وهو مالم افهمه ولم يكن واضحا لماذا .
في كل حال اصاب هذا الفيلم قبل عرضه في القاهرة نجاحا معروفا وسبقته سمعته قبل الوصول للقاهرة من جهة بيعه في اكثر من 20 دولة وتوزيعه وعرضه في العديد من
الصالات الأوربية والأرباح التي اصابها ...ووسط هذه السمعة وبعدما عرضت للفيلم تذكرت تعليقات المشاهدين ابان عرضه في مهرجان القاهرة وحيث اكتظت الصالة بالحضور ودخلت المخرجة وطاقمها دخولا احتفاليا الى قاعة العرض كما لم يحصل مع اي فيلم آخر في المهرجان فيما لاحقتها الكاميرات والصحافة وهي تخرج بعد انتهاء العرض لكن الفيلم لم يفلح في المنافسة على جوائز المهرجان ولم يحصل الا على شهادة تقدير