اربعة قراءات في كتاب الخطاب السينمائي - القراءة الأولى
الخطاب السينمائي لطاهر علوان
كتاب يجمع بين الدراسة الأكاديمية والأتجاه النقدي المعاصر
عدنان مدانات *
تتميز معظم الجهود الكتابية الاحترافية التي ينشغل بها النقاد السينمائيون الذين يكتبون باللغة العربية عن السينما بالعجالة والتبسيط، ولا نقول التسطيح أو انعدام العمق والجدية، سواء منها المرتبطة بتحليل الأفلام أو تلك التي تسعى لمعالجة مواضيع وظواهر سينمائية أو تحاول مقاربة القضايا النظرية التعبيرية والجمالية الخاصة بالسينما وعلاقاتها مع الحقول الأدبية والفنية الموازية. والنقاد غير ملامون بهذا الشأن، بل على العكس من ذلك، طالما أن ما يكتبونه مرتبط بالوسيط الذي يتعاملون معه ، أي بالصحف ، وطالما أن القراء المفترضين هم من الجمهور العام غير المتخصص. وهذا الوضع المبرر بشروطه التاريخية وبالواقع العملي، لا ينفي الحاجة إلى كتابات عن السينما تنشغل بالمجالات المختلفة للسينما ذات الطبيعة النظرية، وهي مجالات كثيرة بعضها يمكن أن يهتم بدراسة السينما من حيث علاقتها بالعلوم الإنسانية ، من نوع علم اجتماع السينما و علم نفس السينما وعلم جمال السينما، وبعضها يدرس الجوانب الخاصة بفن السينما كوسيلة تعبير. وهذه المهمة التي لا يتحمل نقاد السينما الذين يخاطبون القارئ العام مسئوليتها بالضرورة، يمكن تحميلها لنوع آخر من النقاد ، أي النقاد غير المحصورين بمجال الصحافة اليومية، بل الذين يتفرغون للبحث في مجالات السينما بسبب وضع أكاديمي يتيح لهم إمكانية الغوص في المجالات النظرية، طالما انهم يخاطبون جمهورا مختلفا ، جمهور الدارسين في المعاهد والكليات الجامعية الخاصة بالسينما.
هذه المقدمة ضرورية للتعريف بكتاب جديد عن السينما صدر بالعربية بتوقيع الناقد والباحث العراقي طاهر عبد مسلم بعنوان " الخطاب السينمائي من الكلمة إلى الصورة ". والباحث طاهر عبد مسلم علوان عمل أستاذا للسينما في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد في الفترة ما بين الأعوام 1994 و1997 ، كما في كلية الفنون والإعلام بجامعة الفاتح في ليبيا ما بين عام 1997 و2001 للعمل كباحث في قسم الإعلام والاتصال في الجامعة الوطنية في ماليزيا حتى العام 2004 إلى أن عمل مشرفا على صفحة السينما في صحيفة الزمان العراقية ورئيسا للقسم الثقافي لسنوات عدة . وهذا يعني أنه مارس الكتابة عن السينما بشقيها الاثنين ، الأكاديمي والصحافي. وسنرى أنه في كتابه الجديد هذا الصادر في بغداد في العام 2005 عن وزارة الثقافة العراقية سيجمع ما بين هذين النوعين من الكتابة . غير أن ما يهمنا هو النوع الأول المرتبط بقضايا نظرية سينمائية.
يخصص المؤلف الفصل الأول من كتابه لتناول القضية الهامة في السينما ، والشائكة في نفس الوقت، والتي لم يلتفت إليها إلا عدد قليل من الباحثين في السينما في العالم، وهي السينما الشعرية. ومن أبرز من كتب في هذا المجال المخرج الروسي أندري تاركوفسكي والذي يطلق عليه النقاد تسمية " شاعر السينما "، وكذلك المخرج والشاعر والباحث الإيطالي في مجال السينما والنظرية الأدبية بيير باولو بازوليني .
يحدد الباحث طاهر عبد مسلم تعبير " شعرية السرد السينمائي " عنوانا للفصل الأول من كتابه،الذي يحدد منذ البداية في مقدمته أنها إشكالية تتصل بالنوع الإبداعي وبالأسلوب وبأنها إطار واسع للتعبير عن نوع فيلمي محدد يجري فيه " الارتقاء بمعطيات وظواهر وتفاصيل وموضوعات من مكانها المباشر والأقرب إلى الواقع إلى مديات الأنساق التعبيرية المتصلة بالرموز والدلالات والإحالات التفسيرية المرتبطة باللون والشكل والهيأة والحركة. بمعنى أن المبدع في الفيلم معني بتحميل المشهد الواحد واللقطة الواحدة بإحالات لا تقدم الصورة في دائرتها المعنوية المباشرة، بل بما بعد الصورة وما بعد التعبير المباشر... وبهذا تنخرط التجربة في تتابع بنائي ينشد شكلا من أشكال التعبير غير مألوف وغير مستهلك".
وفي الحقيقة يلامس المؤلف هنا جوهر إشكالية السينما الشعرية في تناقضها، إن صح التعبير، مع جوهر السينما نفسه القائم على العلاقة المباشرة مع الواقع من خلال العكس المباشر لصور الواقع بما يجعل من إمكانية استخدام الترميز التجريدي في السينما أمرا صعبا، لأن الرمز لا يتحقق في السينما إلا من خلال صور واقعية، وهذا ما عبّر عنه بيير باولو بازوليني قبل نحو ثلاثة عقود من الزمن عندما ذكر في بحث له حول السينما الشعرية ما معناه أن على المبدع كي يرمز في السينما لشخص ما بتفاحة أن يصور تفاحة حقيقية.
في تطرقه لعملية إنتاج المعنى في البنية الشعرية للفيلم يحدد المؤلف ثلاثة محاور أو ثلاث وسائل متبادلة التأثير تتوالد المعاني بواسطتها من خلال مواضيع تشتمل على شتى انساق العلاقة التي تحول ما يمكن ترميزه إلى بنية من الرموز الدالة الخاصة التي بعضها يمكن " استخلاصه معنويا والآخر قد يكون باطنيا يتعلق بالنسيج الفيلمي كله". ولهذا يتحدث المؤلف بإسهاب عن ثلاثة أنواع من الدلالات المستخدمة في الفيلم، وهي الدلالة السمعية والدلالة البصرية و أخيرا، الدلالة الحركية. ويؤكد المؤلف أن الشعرية في السينما لم تعد منخرطة في فاعلية أدائية شرحية، بل إنها معنية بصنع اثر ما لدى المتلقي والاندفاع بعيدا في ما بعد هذا الأثر من أصداء وتفاعلات نفسية محركة للمخزون المعرفي والشعوري" ، و يضيق " بصدد الصورة ، إننا إزاء عالم من العلاقات الداخلية المرتبة على وفق نسق خاص، يقوم على أساس الارتقاء من الحقيقة الفيزيائية المجردة إلى المعنى التام ". وينتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن جوانب أخرى من قضية السينما الشعرية مثل جماليات البناء الشعري وعلاقة شعرية السرد بالزمان والمكان والتكوين السينمائي. وينهي المؤلف هذا الفصل بالتعريف بتجربة مجموعة من المخرجين السينمائيين العالميين في مجال شعرية الفيلم مثل الأمريكي أورسن ويلز والإيطالي فيديريكو فيلليني والسويدي إنغمار بيرغمان وغيرهم من كبار مخرجي العالم، ويفرد حيزا خاصا لدراسة تجربة المخرج السوفييتي الكبير سيرغي إيزنشتاين من خلال عرض بعض أفكاره و تحليل تجربته في فيلمه الشهير " المدرعة بوتومكين " ( 1925). ويشير المؤلف إلى أن إيزنشتاين عمد إلى إخراج الأشياء عن سكونيتها إلى مستواها الحركي الذي يرتقي بالوعي إلى مرتبة تفوق السائد والمألوف في الطرح الإبداعي. وهو، أي إيزنشتاين، يفهم الصدام القائم _ أو الذي سيقوم _ بين العناصر المتقابلة _ أي اللقطات _ في السياق الفيلمي على أنه امتداد لجدلية الطبيعة، وأن ربط عنصرين كميين متضادين ينتج استعارة قد توجد على مستوى نوعي مختلف، ومثل ذلك إن لقطة باب تليها لقطة أذن تعنى استراق السمع.وامتدادا لدراسته لتجربة إيزنشتاين يفرد المؤلف بضع صفحات للتعريف بما كتبه حول نفس المخرج المنظّر الفرنسي رولان بارت.
في الفصول التالية يتعرض المؤلف إلى مجموعة من القضايا الأساسية المرتبطة بفن وجماليات السينما مثل ثنائية السرد وقراءة الشكل الأدبي مقابل النسق السمعي البصري، مفاهيم الأنواع الفيلمية، وكذلك العلاقة بين الأدب والسينما من خلال تجربة الإعداد السينما، ويختم المؤلف هذه الفصول بعرض لبعض الكتب السينمائية الصادرة بالعربية مؤلفة أو مترجمة.
ويقدم المؤلف في جميع هذه الفصول تطبيقات ملموسة من خلال تحليل تجارب مخرجين ونماذج فيلمية دالة على الأفكار المطروحة في الكتاب، ما يعطي للطروحات النظرية الواردة فيه قيمة عملية.
يشير المؤلف في نهاية المقدمة التي وضعها للكتاب انه موجه للباحثين المختصين بالخطاب السينمائي و السمعي البصري ودارسي السينما وكتاب السيناريو، ولكني أرى أن الكتاب مفيد بشكل خاص للمثقفين والباحثين في شتى فروع الأدب والفن كونه يحاول أن يجيب على الكثير من الأسئلة المرتبطة بالسينما كحقل إبداعي مرتبط أشد الارتباط ببقية الحقول الإبداعية.
جريدة الخليج الأماراتية 27-8 -2006
*ناقد سينمائي من الأردن
اربعة قراءات في كتاب الخطاب السينمائي - القراءة الثانية
الخطاب السينمائي : كتاب في نظرية السينما وحرفياتها
فيصل عبد الحسن*
أن هذا الكتاب مصدر مهم للمعرفة السينمائية في وطننا العربي ولنا أن ننظر بعين الاعجاب والاكبار لكاتب عراقي كتب مؤلفا متخصصا وعميقا كهذا الكتاب وعن السينما بالذات في ظروف احتلال بلده العراق ولنا أن نعاين هذه الظروف المعروفة للجميع برؤية الكتاب والمؤلفين، حيث لا كهرباء ولا تتوفر أقل ظروف الأمان والمعرفة المطلوبة في بلاد نهب المحتلون مكتباتها وتراثها محاولين مسح ذاكرتها وحضارتها، في بلد درجة الحرارة تصل فيه في الصيف وفي الظل الي أكثر من خمسين درجة مئوية وفي الشتاء تهبط درجة البرودة فيه إلي تحت الصفر المئوي والبلد كما معروف فيه فصلان مناخيان فقط هما الصيف والشتاء.
يتناول الكاتب د.طاهر عبد مسلم علوان في كتابه الجديد : الخطاب السينمائي من الكلمة إلي الصورة، عبر أربعة فصول غنية بالمعلومات وتجارب السمعي بصري ليصل بنا عبر هذه الفصول إلي مفاهيم واضحة عن نظرية السينما وحرفياتها، والكاتب أمتلك خبرة واسعة في عالم السينما من خلال عمله الأكاديمي كأستاذ للسينما في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد في الفترة مابين سنتي 1994و1997 وكأستاذ في كلية الفنون والإعلام بجامعة الفاتح في ليبيا ما بين عامي 1997و2001 وعمل كباحث في قسم الاعلام والاتصال في الجامعة الوطنية في ماليزيا حتي العام 2004 وله العديد من الكتب في مجاله، دليل السينما التسجيلية 1996، في كتابة السيناريو 2001، محرر مشارك في موسوعة السينما العربية 2001، عبقرية الصورة والمكان 2001، كما انه مسؤول القسم الثقافي وصفحة سينما في جريدة الزمان الدولية، ومؤسس ورئيس منظمة (سينمائيون عراقيون بلا حدود) ومهرجان بغداد الدولي للفيلم التسجيلي والقصير للسنتين 2004و 2005 ومن هذا الكم من الخبرة النظرية والعملية نجد أنفسنا إزاء جهد منتج من جانب أكاديمي وآخر عملي، ومن الملفت للنظر في أهمية هذا الكتاب أنه جمع صفتي البحث التنظيري للسينما وصفة الموضوع الشيق الذي يأخذ بيدي القاريء البسيط للولوج إلي عالم طالما فتنه بصوره وأخبار نجومه وممثليه وقصص نجاحهم.
كيفية خلق الشاعرية في الفيلم
يتناول د. طاهر عبد مسلم في الفصل الأول (شعرية السرد السينمائي) منطلقا من مقولة رولان بارت (تبدأ السينما حيث تنتهي اللغة) فيقول عن شعرية السرد أن المبدع في الفيلم معني بتحميل المشهد الواحد واللقطة الواحدة بإحالات لا تقدم الصورة في دائرتها المعنوية المباشرة بل بما بعد الصورة وما بعد التعبير المباشر، وربما تتسع الدائرة هذه لتفتح مديات أوسع للانتقال بالرمز والدلالة من الإطار الكتابي، إلي كم غزير من الاحتمالات الفكرية والمعنوية التي تقدمها الصورة، وبهذا تنخرط التجربة في تتابع بنائي ينشد شكلا من أشكال التعبير غير مألوف ولا مستهلك. ووقف الكاتب طويلا باحثا في كيفية خلق الشاعرية في شريط سينمائي، فهو يتناول الدلالة السمعية، من خلال توليد المعني بالتباينات الحوارية والصوتية والدلالة البصرية معتبرا الصورة هي العنصر الأكثر غزارة لانتاج المعني وصنع اللغة الشعرية لأن السينما هي لغة الصورة أساسا، ثم يتناول الدلالة الحركية معتبرا أن فن الصورة هو فن حركة، يقول الكاتب عبد مسلم عن توليد المعني والأثر في النص الشعري: كنت قد طرحت رؤيتي الخاصة، وهي فرضية جمالية تعبيرية بما اسميته بالأثر عبر كتابي عبقرية الصورة والمكان، وأجد أن توليد المعني والأثر هو المحرك الأقوي في أنساق التجربة الشعرية فلم تعد الشعرية منخرطة في فاعلية ادائية شرحية بل أنها معنية بصنع أثر ما لدي المتلقي، والاندفاع بعيدا في ما بعد هذا الأثر من أصداء وتفاعلات نفسية محركة للمخزون المعرفي والشعوري، أنها آلية ايجاد علاقات بين الأشياء والظواهر المرئية المشوشة إلي حيز الدلالة والرمز وتحريك الذاكرة المبدعة.
ويتناول الكاتب النقل الشعري للحالة عبر تحليل عالم النفس كارل يونغ للرموز التي تحملها التأويلات الإشارية والرؤي الشخصية وإن قوة الرمز ليست في الموضوع المستعار أو المرموز له حسب، بل تكمن قابليته علي تركيب نفسه دون ضعف للوصول إلي المعاني المطلوبة. فالرمز عند كوليريج يستمد جزءا من وجوه الواقع فهو يمتلك دلالات متعددة وعند تودوروف فإن النص الشعري يتمظهر بمظاهر عدة عبر محمولاته الرمزية والدلالية، فهو يقسم تلك التمظهرات إلي: فعلية وتركيبية ودلالية وبلاغية وموضوعاتيه.
ألم الشاعر يمنح السرور للآخرين
ويتناول الكاتب نماذج تطبيقية عن شعرية التكوين في السينما: فيلم الهزاز للمخرج روسن، وفيلم شان للمخرج ستيفنز، وفيلم سيدة من شنغهاي، لأور سون ويلز وفيلم ماس ورماد لأندريه فايدا وفيلم الخادم لجوزيف لوزي، وممرات المجد لستانلي كوبريك، والعام الأخير في مارنباد لألان رينيه، والمغامرة لأنطونيو ني، وتجربة الشاعر السينمائي (جان كوكتو) حيث تمتزج لغة السرد السينمائي بالشعر حيث يصرح بأن الفيلم هو كتابة شعرية بالصور، ويؤمن بأن الفيلم هو مركبة من الدرجة الأولي لحمل الأفكار، تسمح للشاعر ـ المخرج أن يصحب المشاهد إلي عوالم لم يقده إليها أحد سوي الأحلام والنوم واعتبر الكاتب أن ثلاثية كوكتو (دم الشاعر) و(أرفيوس) و(شهادة اورفيوس)، هي سبر حقيقي لأغوار مجاهل الخلق الشعري، حيث يدخل الشعر في فيلم دم الشاعر عبر مرآة مبحرا لعالم آخر، إلي عزلته، حيث يداوي جراح يده، وعندما يحك يده بالتمثال يختفي الجرح وتدب الحياة في التمثال، وانتقاما لذلك يدفع به التمثال إلي المتاهة، وإلي عالم الخلق والابداع الفني، حيث يستجلي الشعر من ذكريات طفولته وخيالاته ومخاوفه، حتي يطلق الرصاص علي نفسه ويقع علي طاولة مغطاة بالثلج، وعندما يتفجر دمه يصفق له الجمهور، ويعلن كوكتو: أن ألم الشاعر يمنح السرور للآخرين.
ووجد الكاتب أن كوكتو ينشغل عادة بجمالية التكوين، ولا تخرج عنده اللقطة عن الانثيالات الشعرية، فهو يعني بتتابع المرئيات وبأن تحتل الاجسام مواقعها في سياق البنية الشعرية، ولذا لا تجد خروجا علي بنية الإيقاع الشعري وكأن اللقطة هي جزء من نص الشعر نفسه وهو يترجم نفسه بالسينما.
الأدب والصورة
في الفصل الثاني يتناول الكاتب السيناريو والسرد، طارحا العلاقات الصميمية بين الشكل الأدبي والنسق السمعبصري، بتذييل موح للفصل بعتبة لجاكوبسن يقول فيها: توجد أشياء من الممكن استعمالها في وظيفة العلامة، أنها بالضبط هذا الشيء السمعبصري المبدل إلي علامة وهذه العلامة تؤسس بذاتها المادة النوعية للسينما ويتناول في هذا الفصل العلاقة بين الأدب والصورة بين الكلمة كخيال لصورة والصورة الحقيقية التي تؤلف الخيال أو الكلمة الشعرية، والكاتب يقول عن هذه العلاقة: لم تكن نشأة السينما وظهور انتاجها الفعلي في العام 1895 علي يد الأخوة لومير في فرنسا إلا تأكيدا لمقولة أن الأدب يتمظهر عبر الصورة هذه المرة ويقدم دلالاته، فالرواية والقصة والشعر وبموازاتها جميعا ـ المسرح، قد ألهمت البشرية إبداعا لا ينقطع من خلال صدق التعبير عن تحولات الحياة وارهاصات ألذات الإنسانية. ولذا وجدت الصورة في ذلك الإرث الإنساني الهائل رافدا لا ينقطع لتحولات الأفكار من الكلمة إلي الصورة أنه تعميق لإشكالية راسخة من اشكاليات التلقي تلك التي عنيت بها المدرسة الحديثة في علوم السرد خاصة. ويصل الكاتب إلي استنتاج مهم في استقرائه البحثي مفاده:أن هنالك تواصلا عميقا في طرائق التعبير بين الكلمة والتخيل من جهة وبين التجسيد والتعبير المباشر الذي يحرك الحواس (السمع والبصر) مباشرة موظفا (الحركة) لتعميق التعبير.
فيلم المحاكمة لكافكا مثالا
وفي الفصل الثالث يتناول الكاتب د. طاهر عبد مسلم أنساق السرد والنوع الفيلمي بمقدمة موحية من لو وينفو يقول فيها: تلتقط الشاشات النور الكليل لتبثه كلمات وأحاسيس وصورا تبحث عن معني. ويوضح فيه انفصال الرواية، المسرح، الشعر وأشكال التعبير الأخري عن الخطاب السمعبصري وتشكل الأخير بشكل مواز للأشكال الأخري من التعبير بشكل مستقل ورائد في كثير من الأحيان، لأسباب يذكرها أندريه بازان (ان التصوير الفوتوغرافي والسينما بخلاف الفنون الأخري تقدم صورا للواقع بصورة آلية) ويوضح د. عبد مسلم رأيه حول هذا الموضوع بقوله: أن الظاهرة الفيزيائية (سمعية /بصرية / حركية) تحيل إلي صلة مباشرة بعالم فيزياوي مواز قد يجري تمثله في الخطاب الروائي أو التشكيلي أو المسرحي لكن لكل منهم في واقع الأمر بناه النسقية الخاصة المختلفة (الخشبة، اللوحة، الكتاب، قطعة الحجر أو الخشب) يقابلها الضوء الكهربائي والصوت المسجل علي الشريط، النقل علي الشريط، حركة الشريط بسرعة معينة لتحقيق عنصر الإيهام بالحركة، كل هذا جعل لهذا الخطاب إمكانيات احتواء مزيد من الشفرات، وإذا كان بازان يذهب إلي أن الصورة التي يقدمها صانع الفيلم هي في جوهرها تسجيل موضوعي لما يوجد في الواقع، لأن ذلك لا ينفي ولا يلغي تلك المساحات التخييلية الشاسعة والمتنوعة والغزيرة التي يتيحها هذا السرد السمعبصري.
ويتناول الكاتب الكثير من تجارب السينما العالمية والفرنسية بشكل خاص لتوضيح رؤي فصله النظرية فهو يأخذ فيلم المحاكمة مثالا ليعقد مقارناته بين الأنساق، فيعنون ذلك (بين كافكا واورسون ويلز: موازنات الذات والأخر في الفيلم السينمائي). حيث تطرح حياة جوزيف كاف.. كبطل سينمائي حيث نجد ه وكأنه في منفي، في اللحظة التي يعيش فيها حياته المألوفة بين مقر عمله وبين سكنه وعلاقته بالآخرين ثم يتناول الرواية من حيث أنها عمل أدبي، الذي يقول عنه نقلا عن روجيه غارودي: أن عظمة كافكا تكمن في كونه قد عرف كيف يخلق عالما أسطوريا لا ينفصل عن العالم الحقيقي أيما انفصال، لقد خلق كافكا عالما غرائبيا باستخدام مواد من عالمنا هذا لكنها مركبة تبعا لقوانين أخري.
الأحمر والأسود لستاندال
ويتناول الكاتب في الفصل الرابع من كتابه العلاقة بين النص السمعبصري والإعداد والاقتباس متناولا مقولة جان اورنش كاتب سيناريو الأحمر والأسود عن الرواية الشهيرة المعروفة بذات الاسم للكاتب الشهير ستاندال كمدخل للفصل: لم يكن هنالك شيء زائد في رواية ستاندال، كان علينا أن لا نحذف منها لكننا حذفنا مشاهد كثيرة اعتقادا منا أنها زائدة أو عديمة الأهمية، كما كان أسلوبنا مسرحيا أكثر من اللازم ولم نجد في الفيلم تلك الرشاقة وجو المفاجأة والدهشة التي تميز أعمال ستاندال. ينتهي هنا كلام السناريست اورنش ولكننا بأمكاننا أن نضيف إلي قوله عبارة لم يقلها وهي أن العمل الأدبي حين يتم تحويله إلي نص سمعبصري يفقد الكثير من خصائصه ويكتسب خصائص جديدة، وهنا تبرز حرفية كاتب الكتاب وأهمية هذا الكتاب أنه يعلمنا كيف يصنع الفيلم السينمائي الحديث وتقييمه بعيون خبيرة.
حرافيش محفوظ والسناريست العربي
وفي هذا الفصل المهم من الكتاب يتناول د. طاهر عبد مسلم في دراسته التطبيقية للإعداد والاقتباس في السينما العربية نموذج رواية الحرافيش لصاحب نوبل نجيب محفوظ : فيتناول الأفلام المأخوذة عن الرواية، فيلم الحرافيش انتاج 1985 عن الحكاية الثالثة (الحب والقضبان) إخراج حسام الدين مصطفي، كتب السيناريو أحمد صالح، وفيلم المطارد، انتاج 1985 عن الحكاية الربعة، اخراج سمير سيف، كتب السيناريو أحمد صالح وسمير سيف، فيلم الجوع انتاج 1985 عن الحكاية الثالثة والخامسة والتاسعة، اخراج علي بدر خان، السيناريو: علي بدر خان ومصطفي محرم وطارق المرغني، فيلم شهد الملكة، انتاج 1985 عن الحكاية السادسة، اخراج حسام الدين مصطفي، السيناريو مصطفي محرم، فيلم أصدقاء الشيطان انتاج 1987 عن الحكاية السابعة أخرج أحمد ياسين، سيناريو ابراهيم الموجي، فيلم التوت والنبوت، انتاج 1986 عن الحكاية العاشرة، اخراج نيازي مصطفي، سيناريو: عصام الجنبلاطي.
وألحق المؤلف بكتابه ملحقا عنونه بقراءات وسيبدو الملحق في عين المدقق أن الكاتب يملك من الخبرة والمعلومات عن هذا العالم ..عالم السينما المكتظ بالجمال، ما لم تسعه فصول كتابه القيم.
الكتاب: الخطاب السينمائي من الكلمة إلي الصورة / المؤلف د.طاهر عبد مسلم علوان / دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد / 2005 عدد الصفحات 271 من القطع الكبير.
* كاتب وقاص عراقي مقيم في المغرب
اربعة قراءات في كتاب الخطاب السينمائي - القراءة الثالثة
كتاب الخطاب السينمائي لطاهر علوان : يؤسس لأتجاه جديد في النقد السينمائي
يوسف يوسف*
القليل من الكتابات التي يصنّفها أصحابها على اعتبار أنها من جنس النقد السينمائي تستحق الاحترام، وبعكس ذلك فإن الغالبية من هذه الكتابات لا تستحق مثل هذه النظرة، خصوصا تلك التي اعتاد أصحابها اجترار زوايا النظر ذاتها التي اعتادوا الالتفات منها إلى كل فلم يكتبون عنه، مثلما اعتادوا تكرار المفردات ذاتها، بدون أية رغبة حتى في تحسين البنية اللغوية لما يكتبونه. وكتاب الناقد طاهر عبد مسلم علوان(الخطاب السينمائي) واحد من هذا القليل الذي يجب على القارئ أن لا يمرّ من أمامه مرورا عابرا، فهو والحق يقال، نتاج عقل يتجاوز النقل والتكرار، ويحفر بدون كلل في أكثر من طبقة، وبه يؤسس صاحبه موقعا متميزا بين من السينما.
من علامات ذلك وهو ما يلفت الانتباه، تطابق قراءات طاهر النقدية، مع فهمه لماهية وبنية النقد السينمائي كما يوضحها في الجزء التنظيري من الكتاب. والنقد السينمائي كما يراه ويتعامل معه، ميدان تتداخل فيه مفاهيم وقواعد تتعلق بنظريات النقد الحديث من جهة، وبغيرها مما في الفلسفة والأدب وعلم الجمال والسينما نفسها من جهة ثانية، وهو الفهم الذي يطمح إلى احتلال الموقع المتميز، الذي من أهم ملامحه التبشير باتجاه جديد في النقد، يمكن فهم أبعاده من خلال مجموعة العناوين التي يتناولها المؤلف بالبحث ومنها: جماليات البناء الشعري في الفلم، قراءة رولان بارت لشعر السرد عند ايزنشتين ، خطاب الغرائبية السمعبصرية، أنساق النصّ والشكل السمعبصري،مستويات السرد السمعبصري نظرة إلى السردية في السينما الفرنسية، إشكالية النسق والنوع الفلمي. ومعنى ذلك كله أنّ المؤلف يحاول الانفتاح على ما هو حديث في النقد، بإدماج نظرية النقد السينمائي بنظرية النقد الأدبي، وهو مما جعله يستحضر أطروحات وكشوفات مفكرين كبار مثل فوكو وايفا نوكس وبروب وبارت وفان ديك وجاكوبسن وغيرهم الكثيرين.في الكتاب أربعة فصول يجمعها ناظم البحث عن معنى الخطاب السينمائي وصلة السرد السينمائي بالسرد الأدبي. وهنا قد يسأل القارئ عن المبررات التي يقدمها المؤلف، إلا أنه سرعان ما يبدّد أية حيرة قد تعتريه من خلال الوقوف به أمام معنى الخطاب كما يفهمه هو، وليس كما يفهمه الكثيرون، إذ أنّ هذا الخطاب كما يراه ويفهمه طاهر يمتد من الكلمة المكتوبة في السيناريو الأدبي إلى الصورة التي نراها في الفلم. أي أنه لا ينحصر في الثانية كما يعتقد الكثيرون ممن يتعاملون مع الفلم باعتباره فنا سمعبصريا.وبسبب هذا الامتداد الذي يبدأ من الكلمة –الأدب وينتهي بالصورة –السينما في المفهوم التقليدي نتبين أسباب الحديث عن إدماج.الخطابين ببعضهما وتداخلهما معا. س ـ في الفصل الأول: شعرية السرد السينمائي ، يعالج المؤلف هذه الحالة بوصفها نظاما زمانيا ومكانيا وحكائيا وعلاميا.وكما يتصور الأمر فإن الشعرية المقصودة هنا إشكالية على نحو ما، وهي تتصل بالنوع الإبداعي /روائي تسجيلي، وبالأسلوب/ واقعي انطباعي، وكذلك بالمديات التي يصلها المبدع في الفلم ابتداء من كاتب السيناريو-الكلمة وانتهاء بالمخرج-الصورة. ومن الضروري أن نعرف هنا أنّ السينمائي الذي ينتج الخطاب ينشغل بكيفية إنتاج المعنى الذي يتمظهر أخيرا من خلال الدلالات السمعية والبصرية والحركية. على أنّ فهم ذلك يقترن بفهم كيفية توليد المعنى في النصّ الشعري. ومن النماذج التطبيقية التي يتناولها في درس شعرية التكوين السينمائي أفلام:"الهزاز"و"سيدة من شنغهاي" و"ماس ورماد" و"الخادم"و"ممرات المجد" وهناك غيرها أفلام لمخرجين كبار منهم:آلان رينيه، وأنطونيوني وفيليني وكلود شابرول. كما ويعرض لشعرية السرد من خلال تجارب أنجمار برجمان وايزنشتين ولخطاب الغرائبية من خلال ملك الخواتم والمرأة الخارقة والخفافيش والقردة. وعلى ذكر الغرائبية في السينما المعاصرة، فإنها لم تعد نزوعا فانتازيا مجردا، ولا توظيفا للتقنيات السمعبصرية المجردة، بل هي بناء سردي وفكري وجمالي تسنده التقنيات المعاصرة وشتى أنواع الخدع التي يقدمها الكومبيوتر. في الفصل الثاني يتوقف أمام ثنائية السيناريو والسرد، أي إنه يبحث عن عناصر المقاربة بين الشكل الأدبي والنسق السمعبصري.وفي هذا المجال، ونظن أنّ ما يشير إليه هو الصواب، فإن نشأة السينما في عام 1895 كانت تعني أنّ الأدب بدأ يتمظهر عبر الصورة ويقدم دلالاته من خلالها. بل ويمكن القول بأنّ الصورة وجدت في الأجناس الأدبية المعروفة (الرواية والقصة والشعر والمسرج) رافد لا ينقطع لتحولات الأفكار من الكلمة على الصورة. ومن الضروري أن ندرك هنا أنّ الصورة كوسيلة تعبير ليست حالة مجردة مرئية فحسب، بل إنها وبحسب التعبير الذي يستخدمه المؤلف مدّ مركب من الشيفرات الداخلية، ليس أقلها أهمية اللون والعمق والإضاءة والتكوين، وكما يقرر(دافيد كوك) ، أحد أهم المنظرين للصورة السمعبصرية في قوله:إن القليلين هم الذين تعلموا كيف يفهمون الطريقة التي تمارس بها هذه الصورة تأثيرها إنها تخلق العديد من الرسائل التي لا تريد أن تنتهي ، والتي تحيط بنا من كل جانب. في المقاربة بين السيناريو والشكل الأدبي، يطلق طاهر مسلم على الأول لقب الوسيط النوعي، الذي يقع عادة بين الرواية- أو النصّ الأدبي عموما وبين الصورة المعروضة على الشاشة. وإذا كانت شيفرات الرواية تتغلغل كما يقول في شبكة المرويات وبدوافع الشخصية،فإن شيفرات السيناريو تتغلغل في شبكة التعبير الظاهري المباشر.بمعنى أنّ السيناريو يقوم على سلسلة من آليات الإحالة من نسيج النص الروائي وشكله الثنائي(المقروء/المتخيل) إلى شكله الثلاثي(المرئي/المسموع/المتحرك) والمقصود بالعنصر الأخير حركة الأشياء داخل إطار الصورة. ولعله من الضروري التنبيه هنا إلى أنّ السرد السمعبصري هو نمط من أنماط السرد المبنية على انساق نصية سابقة-الروائي أو الحكائي أو الشعري أو المسرحي.ولهذا من المهم أن يعرف الناقد قبل غيره ، أنّ لنسق النصّ تمثلات مختلفة في المدارس المعاصرة، وبموازاة ذلك فإنّ النسق السمعبصري هو نسق (علامي)، أي إنه مقترن بالعلامة السمعبصرية. وانطلاقا من (بارت) فإنه أيضا نسق متعدّد العلامات، وكثيف في تصديرها، كما أنه يوظف العلامات على أساس قاعدة (الرسالة) التي تنقل إلى الآخر (المتلقي) فهي رسالة رمزية وضمنية.وضمن السياق نفسه من البحث، فإن مسلم في الفصل الثالث (نسق السرد والنوع ألفلمي) يحاول تعميق الأطروحات السابقة، انطلاقا من دراسة النوع ألفلمي الذي تناوله بإسهاب (س. سولومون) الناقد الشهير في كتابه ( أنواع الفلم الأمريكي). لماذا حديث النوع هنا، فذلك لأنّ الخطاب السمعبصري انفصل عن بقية أنساق الخطاب المجاورة ( الرواية، المسرح، الشعر..) وتشكل على هيئة خطاب موازي مكتمل العناصر ، وله نماذج نسقية خاصة إنّ هذا النسق الذي يكرس النوع كما يقول المؤلف، يقدم التبرير لدراسته باعتباره إنتاجا موازيا ، أو سردا مستقلا يتداخل ويتجاور مع سواه من السرديات.بيد انه من الضروري الانتباه إلى أنه ثمة تنوّع تعبيري دال يتسع باتساع النوع في الخطاب ألفلمي.ومما يذهب إليه سولومون أنّ مفهوم النوع قد لاقى قبولا واسعا لدى الجمهور العريض. ولعل هذا الأمر هو الذي يعمق رسالة الفلم الهادفة، وعلاقتها بشريحة هائلة من البشر من متذوقي الفن السابع. أخيرا وبعد أن يكون المؤلف قد أنهى الحديث في الفصول السابقة حول خطاب السينما من الكلمة إلى الصورة، وبعد أن تكون علاقة النسقين:اللغوي والصوري قد اتضحت، فإنه في الفصل الرابع الأخير يتناول قضية الإعداد والاقتباس، ألتي هي قضية تحويل النص الأدبي إلى نصّ سينمائي. إنّ النصّ السمعبصري ينشد متنا ومبنى حكائيين، وهذا مما أدى إلى تعميق العلاقة بين الرواية والفلم ، وجعل الاولى أكثر إغراء للسينمائيين لإعدادها وتحويلها إلى أفلام.إنّ الوسيط النوعي في عملية الإعداد والاقتباس يرتكز أساسا على المقارنة بين الشكلين : الروائي والسمعبصري، غدا يشكل الأدب مصدرا مهما من المصادر المعتمدة في كتابة النصّ السمعبصري.وإذا كان فن الفلم في مراحل البدايات قد اعتمد على نقل حكاية أومضمون حكائي إلى الجمهور عندما كانت (التقنية) في بداياتها ، فإن فن الفلم صار يبحث بالتدريج عن نصوص تشكل (الوسيط)بين الشكل السينمائي والمضمون الحكائي.وإنّ الوسيط النوعي (السيناريو)هو وسيط بمعنى أنه حلقة بين ما هو أدبي وسينمائي. ومن جهة أخرى فإنه (توع) مستقل يقتبس من المصادر لكنه لا ينتمي اليه، فهو-السيناريو نوع غير قابل للتغيير أو التعديل. وبعد، فإن المؤلف طاهر عبد مسلم علوان في كتابه الجديد، يحاول الإضافة إلى النقد السينمائي، عبر ضخ مفاهيم جديدة في شرايينه، من شأنه الانتقال به من حالة الركود إلى حالة الحيوية التي يتحرر بها من المفاهيم التي باتت بلا جدوى حقيقية، وهي الصفة التي تحسب لصالحه، خصوصا وأنّ أغلب ما يكتب من نقد سينمائي، قد ضاقت الآفاق أمام أصحابه، ولم يعودوا يبصرون غير ما اعتاد عليه السابقون قبل ما يزيد على النصف قرن من عمر النقد، وعمر السينما. كتاب/الخطاب السينمائيمن الكلمة إلى الصورةالمؤلف / طاهر عبد مسلم علوان الناشر/دار الشؤون الثقافية العامة
جريدة الأتحاد 5-8-2006
*ناقد وكاتب من فلسطين مقيم في العراق
اربعة قراءات في كتاب الخطاب السينمائي لطاهر علوان: القراءة الرابعة
يطرح هذا الكتاب مشروعاً نقدياً متكاملا يجمع بين المجال السمعي البصري بشموليته، والسينمائي في خصوصيته. ويحاول المؤلف فيه أن ينفتح على مستحدثات القراءات المعمقة لفن الفيلم، التي لاتنطلق من مسلمات تقليدية ومكررة، بل تحاول ادماج نظرية الفيلم والنظرية النقدية بالمدارس والاتجاهات الحديثة
صدر عن دار الشؤون الثقافية العراقية كتاب يحمل عنوان «الخطاب السينمائي.. من الكلمة الى الصورة» للناقد السينمائي العراقي الدكتور طاهر عبد مسلم علوان.، وتضمن اربعة فصول مع مقدمة.
مستحضرا كشوفات مفكرين كبار مثل فوكو وبروب وبارت وفان ديك في سياق المناقشات التي طرحها فيما يخص الخطاب السينمائي والمنطقة الوسط التي يمثلها السيناريو بين السرد في الرواية والقصة والسرد المقترن بالشاشة.
يستعرض الكتاب في الفصل الاول الذي يحمل عنوان «شعرية السرد السينمائي» الاساليب التي بلغها الابداع الفيلمي ابتداءً من كاتب السيناريو وانتهاء بالمخرج. وتتسع الدائرة لتفتح مديات اوسع للانتقال بالرمز والدلالة من الاطار الكتابي الى كم غزير من الاحتمالات الفكرية والمعنوية التي تقدمها الصورة.
في الفصل الثاني الذي يحمل عنوان «السيناريو والسرد.. الشكل الادبي والنسق السمع بصري» يحاول المؤلف الاقتراب من التطبيقات الفيلمية على الرواية الادبية فهو يرى ان اية قراءة في بنية النص يجب ان تنطلق من بؤرة تتجمع حولها اتجاهات النص فتتكشف افعال الشخصيات ودوافعها والحيز الزماني والمكاني الذي يؤطر ذلك الحدث.
ان هذه المعطيات: الشخصية/الحدث/ الزمان/المكان ظلت تحرك الاطار التجريبي للنصوص زمناً طويلاً ويشير تاريخ الرواية بشكل خاص الى تلك التحولات العملاقة، التي شهدها الفكر الانساني الذي تجسد في الرواية كمدار كامل للحياة البشرية. ولتقريب الصورة يذهب مؤلف الكتاب الى ان المنظر ادوين موير يستقرئ النص الروائي من وجهة نظر تحاكي الحاجة الحقيقية للصورة المرئية. وقد قسم (موير) الرواية الى ثلاثة اقسام هي: رواية الحدث ورواية الشخصية والرواية الدرامية. ويرى المؤلف أن السيناريو لا يغادر المعطيات الموضوعية التي تكون النسيج الروائي وسيل المدركات الحسية التي تعبر عنها الشخصيات في النص، لكنه في الوقت نفسه، لا ينغمر في متاهات النص ولا ينقاد الى تداعيات الشخصيات، بل انه يدفع قدماً باتجاه ايجاد تحولات ومتغيرات وباتجاه تصعيد النص وتصعيد الاحداث فيه. في هذه النقطة هناك تفصيلات كثيرة لا يسع المكان هنا لذكرها.
في الفصل الثالث الذي يحمل عنوان «نسق السرد والنوع الفيلمي».. يسلط المؤلف الضوء على الظاهرة الفيزيائية، السمعية/البصرية/الحركية، التي تحيل هذه الظاهرة الى صلة مباشرة بعالم فيزياوي مواز قد يجري تمثله في الخطاب الروائي او التشكيلي او المسرحي، لكن لكل منهما في واقع الامر بناة النسقية الخاصة المختلفة (الخشبة، اللوحة، الكتاب، قطعة الحجر او الخشب) يقابلها الضوء الكهربائي والصوت المسجل على الشريط، والنقل على الشريط، وحركة الشريط بسرعة معينة لتحقيق عنصر الايهام بالحركة.
وينتقل المؤلف عبر عناوين صغيرة الى «السردية في السينما الفرنسية»، متتبعا المسار الذي سار عليه الاخوة لومير الفرنسيان وتجاربهما الطليعية في عرض اول الافلام السينمائية في التاريخ. ثم ينتقل الى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية متتبعاً كبار المخرجين الفرنسيين كجاك رينوار ورينيه كليمان حيث واقعية رينوار التي تشكل سمة هذه السينما وعلامة من علاماتها المتميزة، حتى يصل الى (تروفو) الذي رافق الموجة الجديدة في السينما الفرنسية بما حملته من تجارب سردية مختلفة. وقد فصل المؤلف علاقة تروفو بهذه الجماعة، حين ازال الجدار الذي يفصل العالم السينمائي عن الواقع منادياً بملامسة الانسان العادي والخروج من الاستوديوهات الفخمة والمظاهر الدعائية.
وفي عنوان فرعي آخر «المحاكمة مثالاً بين كافكا واورسون ويلز» يقرأ المؤلف مجازفة اورسون ويلز في تحويل رواية كافكا الى فيلم، حيث تمكن ويلز من خلال اسلوب الابهار البصري من اجابته عن تساؤلات كافكا المتفجرة في المحاكمة.. انطلق ويلز في اخراج المحاكمة من ازمة الشخصية وتكثيفه البنى الدرامية والوسائل التعبيرية وتأطيرها لتحيط بالبطل المأزوم وتكون فضاء يحيا في كنفه.
ويشير المؤلف د. طاهر الى ان ويلز عمد الى توظيف الحركة ولكنها ليست الحركة المبنية على المطاردة ورد الفعل العنيف والسريع، بل حركة تحسها في ادق الايهاءات والانفعالات العميقة المنعكسة في ذات تخضع المتغيرات للتساؤل والمحاكمة.
في الفصل الرابع الذي يحمل عنوان «النص السمع بصري والاعداد والاقتباس» يعالج المؤلف كيفية إعداد الرواية فيلمياً، مطبقاً نموذجه على عدد من الافلام المهمة التي تم الاقتباس منها كالحرب والسلام لتولستوي وجسر على نهر درينا لايغو اندريتش ورواية الصخب والعنف لفولكنر. وهناك دراسة تطبيقية عن الاعداد والاقتباس، كان نموذجه فيها رواية الحرافيش لنجيب محفوظ، التي تم انتاج ستة افلام مأخوذة منها اولها (فيلم الحرافيش) انتاج 1985 عن الحكاية الثالثة اخراج حسام الدين مصطفى، وفيلم (المطارد) انتاج 1985 عن الحكاية الرابعة اخراج سمير سيف، وفيلم (الجوع) انتاج 1985 عن الحكاية الثالثة والخامسة والتسعين اخراج علي بدرخان، وفيلم (شهد الملكة) انتاج 1985 عن الحكاية السادسة اخراج حسام الدين مصطفى، وفيلم (اصدقاء الشيطان) انتاج
عن الحكاية السابعة اخراج احمد ياسين وفيلم (التوت والنبوت) انتاج 1986 عن الحكاية العاشرة اخراج نيازي مصطفى