سينما تبحث في الحياة الأنسانية عن ازمات وماهو استثنائي وغير متوقع ولا مألوف ..هي هكذا .. كما الحياة المسالمة الطبيعية التي لها وجه آخر مخفي وغير مرئي يحمل في ثناياه مفاجآت غير محسوبة وغير متوقعة ، وفي المستوى نفسه هنالك شخصيات في هذه الحياة يبدون في الظاهر هم الرائعون الطبيعيون المتوازنون في مظهرهم والأنطباع الأولي الذي يتكون عنهم ولكنهم سرعان مايبدون في صورة اخرى وحال آخر .
ربما كان هذا مايمكن قوله في فيلم ( العاب مرحة ) للمخرج مايكل هانكي والذي يعرض الآن في العديد من صالات العرض في اوربا وكان قد شارك مؤخرا في المهرجان الدولي للسينما الفانطازية الذي اقيم في بروكسل اواخر شهر شباط فبراير الماضي .
الفيلم يقدم حياة وديعة ومسالمة لأسرة تتكون من الزوج جورج ( الممثل تم روث ) والزوجة آن ( الممثلة نوامي واتس) وابنهما ذو العشرة اعوام ، وهم منصرفون الى حياتهم العادية متمتعين بعطلاتهم كسائر البشر ، حتى يطل شابان ظريفان هما بول وبيتر (الممثلان مايكل بت و برادي كوربيت ) مظهرهما يدل على انهما من عائلة ميسورة الحال ، يرتدون ملابس لعبة الهوكي البيضاء الناصعة مع القفازات البيضاء ، شابان بملامح بريئة ومسالمة ، يطرق احدهما باب منزل السيدة آن خلال غياب زوجها وابنها مدعيا انه جاء ليطلب بعض البيض وان امه ارسلته وانهما يسكنان في منزل مجاور ، وبحسن نية تجلب السيدة البيض لكنه ومع تقديمه الشكر يقوم بحركة ما فيسقط البيض على الأرض ، يعتذر هو لكن المرأة تتدارك الأمر وتجلب له بيضات اخريات وتنشغل في تنظيف الأرض الملوثة بالبيض فيما الشاب جاثم مواصلا اسفه واعتذاره ، وعندما تنتهي المرأة من عملها وتقبل اسفه تجده واقفا بلا حراك في مكانه ، تحاول ان تنبهه لكي يخرج فتغلق الباب وتنصرف الى شؤونها لكنه يبقى في محله حتى تستغرب المرأة وتبدي انزعاجا مما يجري وتصرخ في وجهه ويتصاعد الحوار بينهما بينما يرد الشاب في كل مرة ببرود وبراءه ، حتى يحضر الزوج ويجد امامه المشهد فيبادر الشاب الى عرض قصته مع البيض بينما تبدو الزوجة مستاءة وتريد من زوجها ان ينضم اليها في اخراج الشاب من المكان ، لكن الزوج يجد في ذلك الشاب سيماء الوداعة والبرءاة مايدفعه ليرحب به ويلوم زوجته لأنها تعنفه ، وماهي الا دقائق حتى ينظم شاب آخر يحمل ملامح مشابهة وبنفس الزي ويقول انه شقيق الأول وقد التحق به لأنه قد تأخر في العودة للمنزل . وبمجرد انضمام هذا الوجه البريء الآخر للمشهد يقع التحول اذ يغلق الأثنان الباب ويجلسان وكأنهما في منزلهما وبكل ثقة وهدوء ، ولما يشعر الزوج ان امرا غريبا يقع يتحدث معهما ويجادلهما ولكنه يفاجأ بقيام احدهما بضربه ضربة قوية بمضرب البيسبول يسقط على اثرها وقد كسرت ساقه .
من هنا تبدأ مشاهد مثيرة من ذلك الصراع المحتدم بين الشابين والأسرة يمارس فيه الشابان تعذيبا نفسيا متواصلا شرسا بحق هذه الأسرة ، انهما يمارسان لعبة يستمتعان بها وهما لايقصدان ايذاء احد وانهما سينصرفان في وقت قريب لكنهما يواصلان ذلك الأسلوب الرهيب في اللعب على مشاعر الرجل وزوجته وممارسة لعبة قاسية بالأنفراد بكل واحد منهما في نوع من الأيذاء النفسي الذي تتكشف من خلاله شخصيتي الشابين اذا يبدو احدهما او يتظاهر بأنه عدواني مريض نفسيا وخطير والآخر مسالم ودبلوماسي ويريد حل المشكلة ، لكن ماهي المشكلة وما حلها ؟ ماذا يريد الشابان ؟ المال ؟ اغتصاب المرأة مثلا ؟ كل هذا لايقع بالرغم من ان احدهما يطلب من المرأة ان تتعرى او تقتل , وتفعل ذلك صاغرة في مشهد مشحون ومؤلم اذ كانت المرأة وكأنها تموت تدريجيا وهي تفعل ذلك ، ولكن ايا منهما لايمس المرأة جسديا ولم يكن هدفهما سوى التحطيم النفسي الذي ينتهي حتى بضرب المرأة عندما تحاول الهرب ثم شد وثاقها واهانتها .
هكذا تجري وقائع تلك الدراما الفاجعة المأساوية البشعة في عالم معزول تماما في ذلك المنزل الريفي البعيد .
لكن مالا يمكن توقعه ولاقبوله هو ذلك التصعيد السادي الذي يوقعه هذين الشابين والذي يبلغ ذروته عند قرارهما اجراء قرعة لقتل واحد من افراد الأسرة وتعيش تلك الأسرة الوديعة جوا كابوسيا مرعبا حقيقيا ينتهي بأختيار الطفل ضحية وقتله بأطلاقة بندقية وهو ما يحصل فعلا في مشهد مروع يشبه تقديم ضحية الى المشنقة .
بالطبع يتخلل الفيلم محاولات للتملص من المجرمين ثم محاولة الزوجة الهرب والأستغاثة بسيارة عابرة ولكن تنتهي محاولتها بالفشل الذريع وتعود مرة اخرى الى قبضة العصابة حتى تتمكن من قتل احدهما الا ان ذلك لايعني ابدا نهاية اللعبة "المرحة" هذه ، اذ يظهر المشهد الأخير احد الشابين مرة اخرى بملابسه البيضاء الأنيقة وهو يطرق بابا اخرى لتطل سيدة يبدأ معها فصول لعبة جديدة .
هذه هي خلاصة احداث هذا الفيلم ، ولعل مايمكن قوله هنا هو انه واحد من الأفلام المبنية دراميا بعناية فائقة ومهارة ، فرغم المتطلبات الأنتاجية المحدودة وكون اغلب الأحداث تجري في داخل المنزل واغلب المشاهد هي مشاهد حوارية الا ان المخرج استطاع ان يقدم فيلما مشوقا الا انه فيلم قاس بل ومليء بالقسوة ، وتكمن القسوة ليس في اصابة الرجل في ساقه ومقتل الطفل رغم ان ذلك قاس بالأخص قتل الطفل الذي لايمكن استساغته لامنطقيا ولا اخلاقيا ، بل انها تلك القسوة الممثلة في هذا الكم من السادية والترويع الذي يمارسه هذان الشابان المعتلان نفسيا ، انهما اشبه بأولئك المحققين البوليسيين في الأماكن السرية الذين يروعون ضحاياهم عن طريق استدراجهم وتدمير نفسياتهم .
يضاف الى كل هذا ذلك المناخ الذي صنعه المخرج في قبول ماسيجري عن طريق جرعات متتالية ، فالشخصيات المسالمة في الظاهر من الجانبين كانت كافية لنقلنا الى حقائق اخرى اشد مرارة وتعنيفا وسادية . وربما كان الحديث عن سايكولوجيا فيلمية خاصة يصدق على هذا الفيلم المختلف ، انها حقا لعبة ولكنها لعبة بشعة يغلف فيها العنف بقفازات من الحرير كقفازي الشابين الوديعين ، انهما وجه آخر لم نره ولا نراه ولانتوقعه في وسط ايقاع الحياة الصاخبة.
ولعل المسألة الأخرى التي تلفت النظر هي ان هنالك نمطا جديدا من الشخصيات الأجرامية يقدمها هذا الفيلم خاصة ، فقد اعتدنا على وجود صورة نمطية للمجرمين هم تلك الشخصيات بشعة الخلقة كريهة المنظر التي يتقاطر منها السم والشر ، اما في هذا الفيلم فتشعر وكأن الفيلم يطرح سؤالا مفاده : هل من الممكن ان يكون الشرير وديعا ومحبوب المنظر ؟ هذا ماصنعه الفيلم اذ قدم شخصيات شريرة وبشعة ولكنها مشرقة وجميلة يضاف الى ذلك صغر عمر الشابين هذين بما لايمكن توقعه انهما هكذا مجرد مجرمين محترفين ساديين يتلذذان في ايذاء الآخرين .
مايقال عن المخرج مايكل هانكي وهو نفسه كاتب السيناريو انه محترف في ( تعذيب) المشاهد !! هذا ماخلص اليه الناقد اي سكوت في النيويورك تايمز في معرض قرءاته لتجربة هذا المخرج وكان قد فعلها قبل هذا في فيلمه ذائع الصيت عازفة البيانو وهو فيلم مليء بالأجواء النفسية الخانقة والسادية التي تمارسها عازفة البيانو وقد نال ذلك الفيلم الجائزة الكبرى لمهرجان كان سنة 2001 وجائزة السيزار لأفضل ممثلة سنة 2002 وجائزة افضل فيلم اجنبي في مسابقة جوائز السينما الألمانية في نفس العام وجائزة الأكاديمية الأوربية للسينما في نفس العام ايضا اضافة الى جوائز اخرى .
المخرج هانكي نمساوي الأصل من مواليد العام 1942 وهو كاتب سيناريو محترف واما فيلمه هذا فهو اول افلامه الناطقة باللغة الأنكليزية بعد افلامه بالفرنسية والألمانية وقد برز اسمه منتصف الثمانينيات من خلال افلامه : القارة السابعة : 1988 ، الحظ 1994 ، الشيفرة المجهولة 2000 ، مدرسة البيانو 2001، وقت الذئب 2003 ، اخفاء 2005.