الجنسانية ، الجنون ومتعة الألم في تصاعدها وانطفائها....
..
مشهد حميم يجمع بين (وليم ديفو) وزوجته ( شارلوت غينسبورغ ) كائنان يهيمان في كون مجهول هو مدخل الفيلم ..ولم هما هكذا ؟ في التكرار والأنبلاج البورنوغرافي ؟ وما حاجتنا لقراءة الجسد على مخدع الزوجية ؟وهو بدهية الكائنات في تزاوجها ؟ وماالغاية من تلك الموسيقى التي تشبه موسيقى ترانيم الكنائس لتقرن بالمشهد المكشوف ذاك ؟ لا اجابة عاجلة فلنمض ...
عاصفة الأبيض والأسود التي افتتحت الفيلم من الجنسانية الشهوانية المتدفقة هي برسم عالم مجهول خلاصته ذلك التأكيد الممنهج على فورة الجسد ..لماذا ؟ وافلام البورنو ركام فوق الركام وبالسرعة البطيئة نتابع ذلك العصف الضوئي ليترافق مع ظهور الطفل في عدد من اللقطات الحميمية تلك ... لكن تتوج تلك الجنسانية الشهوانية المتدفقة بتأبين واحزان تكمل المشهد فمن اللهو الجنساني الى المقبرة فجأة لاتفصل بين العالمين غير ثوان : لقد قضى الطفل ..بينما الزوجين يتبادلان الأدوار ..ويتيهان في الشهوة العارمة .. يخرج الزوجان مع آخرين من المقبرة بعد مواراة الطفل .. الطفل الذي سقط من علو بينما كان الزوجان منشغلان في اداء مشهدهما الهائج ..وبانهيار المشهد الشاعري تنهار الزوجة .. تحول دراماتيكي كبير هو انهيار الزوجة وانخراطها في العويل والنحيب والعزلة والكوابيس..لكن الحلول النفسانية ربما كانت حلا ويحاول الزوج ان يساعد للخروج بالزوجة مما هي فيه وذلك بأستخدام مهاراته كطبيب نفساني ..حتى ينتهي به الأمر الى السعي لمعرفة أي الأماكن تخيفها اكثر من غيرها وتسبب لها الرعب والكوابيس .. اذا لم يعد الأنسان / الغول / الوحش / الشبح هو الذي يقض مضاجع المرأة التي تهاوت شاعريتها الى عاصفة من الجنون ..بل هو المكان الذي يطاردها ..المكان بديل عن الأنسان الوحش الدراكولا او الشبح ..وتقول : انها الغابة البعيدة هناك ..المسماة ب( غابة عدن ) ..ويسألها عن اكثر مكان في الغابة يخيفها فتقول انه الجسر الخشبي ..اذا يتحول المكان : الغابة والجسر الى وعائين للرعب والفصام ..واشكال من الهيجان والهلع الهستيري ..ويقرر الزوج ان يصحب زوجته الى تلك الغابة والى البيت الخشبي الذي يمتلكانه هناك .. وخلال رحلة الوصول الى البيت تصاب الزوجة بنوبات متواصلة من الفزع وتستريح في وسط الغابة وتتذكر كيف ان زوجها قد طالبها ان تتخيل الغابة بجميع تفاصيلها وهي تسير هناك وحيدة مذعورة وان تنام على العشب وتتحول الى جزء من ذلك العشب في اللون والجسم ..تتماهى تماما وتغيب وتضيع في الحيز المكاني ، في العشب الطري وفي لونه ..ولكن نوبات الفزع لن تتوقف بل تستمر في مطاردتها مما يدفع بالزوج الى العودة الى المشاهد الحميمية معها كأنقاذ وتسكين مؤقت لها ..وهو حل سيكولوجي غريب ، اذ ان ذلك الجيشان الأنساني سرعان مايخرس ساعة يخرس الفم ويسكن الجسد لحظة التئام عادية بين زوجين غائبين عن الكوكب في غابة مهجورة معزولة وقد تحولت الى مشفى في فهم الزوج ..وساحة للصراع بالنسبة للزوجة المحطمة ..حتى انه يجدها وهي تضرب رأسها بقوة في داخل الحمام فتكون مشاركتها في الفراش هي الحل مرة اخرى واخرى
الذات الهائمة
.
وفي البيت الريفي تتطور ازمة الزوجة ، اذ يتحول الأمر الى تساؤلات عن الذات والأنثى والجنس والحياة وتغوص هي في دواخل ذاتها المجهولة ..وحتى المكان الذي ينامان فيه في الغابة لايوفر لهما الهدوء والراحة المطلوبة اذ ان هنالك بقايا الأشجار وقطع الحجارة التي تتساقط على سطح ذلك البيت الخشبي وكأنها الأصوات المتواصلة الصارخة في اعماق الذات ..تلك التي تحطم الهدوء لتشيع التوتر والأغتراب .. اصوات لاتتوقف طيلة الليل حتى اذا طلع النهار عادت الزوجة الى نوباتها المتفجرة وبحثها عن ذاتها سواء بممارستها العادة السرية بمحاذاة تلك الشجرة الضخمة متشعبة الجذور والتي سيقرنها الأثنان بشجرة الأناث في حديقة عدن ، الأناث اللائي يختبئن خلف كل غصن من اغصانها الميتة وحيث تتلوى نلك الأغصان متشعبة تاركة تحتها كهفا مجهولا عميقا ومعتما ومترافقا مع صور من القرون الوسطى تقرن الميثولوجيا بالذات الهائمة اذ يكتشف الزوج تلك الببليوغرافيا الصورية في ركن مجهول ومعزول من منزل الأسرار الخشبي ذاك الذي يذكرك بمنازل هتشكوك ، اقصد منازل الرعب المعزولة في (سايكو ) و التي تعوي من حولها الذئاب مع اطلالة كل قمر وهو يشق عتمة الليل البهيم .
ويواصل الزوج مهمته التي يظهر من خلالها انه يستطيع انقاذ زوجته حتى تبلغ حالة الفصام المرضي للزوجة ذروتها عندما تتحول تحولا دراماتيكيا اذ لم يعد المكان عدوها ومصدر خوفها ..بل يحتشد ذلك الخوف ويتحول الى رد فعل عنيف وانتقام شرس من الزوج ..زوجي عدوي ..تلك هي الخلاصة ..فيتلقى ضربتها القاصمة في موضع الرجولة منه .. يفقد على اثرها الوعي ..فتستغل الفرصة وتقوم بعملية بشعة ووحشية بثقب ساق الزوج وربطها بكتلة معدنية كبيرة تحول دون حركته وبقاءه يتعذب وينزف حتى الموت اما هي واستمرارا للمشاركة في الألم وقتل موضع اللذة في داخلها فأنها تفتح ساقيها وتقوم بعملية ختان بشعة وفضيعة لنفسها وباللقطة المكبرة على الشاشة ( في وقت الحملة العالمية لوقف ختان الأناث ..ذلك قول ناقدة فرنسية صدمت بالمشهد وكانت في طابور مشاهدي الفيلم ) ..لكن لماذا ؟ وماالسبب ؟ وماالدافع ؟ الأنها قد جنت ؟ ام تعاني الفصام ..؟ لكنها سيمفونية الألم وفكرة الألم ..تتحولان الى محرك لدوافع وافعال الزوجة ..المازوخية والسادية المنتجتان للألم تحتشدان بشكل جنوني وعاصف ..يجب ان يتأذى الزوج ويتألم ..ولكن اين ؟ في موضع الراحة والسعادة منه ..تعطيل ذلك تماما وشله نهائيا ..حتى انها وفي مشهد هو امتدادا للبشاعة المتلاحقة تستمني ذكر الزوج ليتدفق منه الدم ..ولكن الزوج ماأن يفيق حتى يبدأ بالزحف الى خارج المنزل عاجزا عن الخلاص من قطعة المعدن الضخمة تلك التي تثقل حركته ويجد في الحفرة المعتمة تحت شجرة الأناث ملاذا ولكنه وهو يختبئ يجد طائرا (مفاجأة هتشكوكية دون شك !!)سرعان مايبدأ هذا الطائر المكلف بدور في الفيلم بأطلاق اصوات تلفت نظر الزوجة مما يسهل عليها الأستدلال على مكان اختباء الزوج بغرض مزيد من الأنتقام منه فيما هي تصرخ دونما انقطاع ( ايها السافل اين انت ؟) وتعثر على (ذلك السافل ) فعلا والذي كان الحبيب الحميم من قبل، وتمضي في انتقامها حيث تغطيه بالتراب فلما تفيق من نوبة الفصام تلك تخلص الزوج وتخرجه من التراب وترعاه وتساعده على التخلص من كتلة الحديد الضخمة التي ادخلتها وربطتها الى ساقه فما يكون منه الا الأنتقام منها خنقا ثم ليقوم بأحراقها على نفس الشجرة التي تحولت الى عنصر وركن مهم من حياتهما بينما ينتهي الفيلم بتقدم حشود من النساء اللائي يغزين تلك الشجرة ويتوزعن على جميع جهاتها
الأجواء المحتقنة
.
هذا غيض من فيض من المشاهد السادية والمازوخية على السواء و كثير من الفصام والوحشية وحيث نكوص الذات وتحطمها علامة فارقة ..ومن ثم لاتدري ما السبب في اطلاق هذا الأسم على الفيلم وعلما ان الأسم كما هو في الأدبيات المسيحية يعني ( المسيح الدجال ) بالمقابل في الأدبيات الأسلامية ، فمن هو هذا المسيح المخادع ؟
لايوجد شخص غير الزوج وربما كانت محاولاته اليائسة لأنقاذ زوجته نظرية اكثر منها واقعية بسبب تدهور حالة الزوجة وانهيارها كليا ...وربما يحضر تأويل مبني على فكرة المسيح الدجال انه يدعي او يوهم الناس وينخدعوا انه قائدهم للصلاح والخير والفضيلة لكنه يقودهم للخراب والشر ..وربما هو تأويل من لدن الزوجة ان زوجها قد قادها الى ماهي عليه بدعوى معالجتها نفسيا بينما هو حطمها تماما ..
يقدم المخرج قصته في شكل فصول متعددة : الفصل الأول : الألم ، الفصل الثاني : الفقدان وهكذا ..وبالطبع يحتمل الفيلم كثيرا جدا من التأويلات فهو يعزف على وتر الميثولوجيا والذات واللاشعور والرمز وربما كانت الأنثى محور الفيلم ولكن في الجانب الآخر هنالك نظرة الى (الجنس) على انه هو السبب في المحنة التي عصفت بحياة تلك المرأة فهي كانت تشارك زوجها تلك المتعة عندما سقط الطفل ومات وزوجها كان يهدؤها بممارسة الحب معها وتحول فعل الحب الى حاجة موازية لأسكات الألم مؤقتا او تسكينه ولهذا تلجأ الزوجة الى التخلص من الأدوات المسببة لذلك فتضرب زوجها تلك ضربة القاضية ..وقد يكون تأويل موضوع الجنس هو احد التأويلات العديدة التي يمكن النظر فيها فضلا عن مشاهد التخيلات والأحلام التي يكتظ بها الفيلم ..والملاحظ بصفة عامة ان المهارة العالية في صنع الصور الفيلمية والأضاءة والمونتاج وقد تميزت بحس جمالي عالي رافقه استخدام متقن على مستوى المؤثرات التي اجتمعت كلها للتعبير عن الأجواء المحتقنة التي تحف بالزوجين ..لكن كل ذلك لم يشفع للفيلم بأن ينال اعجاب المشاهدين بالرغم من الدعاية الكبيرة له ، كما كان هنالك شبه اجماع في العديد من الصحف والمجلات التي صدرت ابان المهرجان على انه لايحظى بكثير من النقاط التي تؤهله للفوز بأحدى جوائز المهرجان المهمة ..لكن المفاجأة كانت ان حصلت بطلة الفيلم الممثلة ( شارلوت غينسبورغ ) على جائزة احسن ممثلة ..وبدت على منصة التتويج وكأنها ليست تلك التي تجلت طيلة مشاهد الفيلم ..كانت تؤدي على المنصة دور فتاة يغمرها الحياء ..فتاة غرة وبسيطة ..تحدثت عن والديها وتمنت ان يقتربوا اكثر من دورها الذي ادته في هذا الفيلم وعن اولادها ...لاسيما وانها خرجت عن اعلى مستويات المشاهد العارية والجنسية الى ماهو اشد عنفا ووحشية ..حتى قيل ان اربعة اشخاص مرهفي او مرهفات الحس اغمي عليهم من جراء بشاعة بعض المشاهد لاسيما اقتطاع بظر المرأة بالمقص ..ولهذا لم يكن هنالك استقبال حسن للفيلم ولاردود فعل ايجابية حوله يلتفت اليها بشكل عام ..مع اني سمعت او قرأت التفاتة من صحافي عربي او اكثر قائلا ( اوه ...ياله من تحفة فنية ..) وليس مستغربا ان تسمع تقييمات كهذه بعدما تحول فيلم (نبي) فيه مافيه من الدس العنصري والأساءة للعرب والمسلمين وخاصة الجالية المغاربية في فرنسا ..تحول الى فيلم عظيم في نظر بعض الصحافيين العرب .,.ويريدوننا ان نكذب انفسنا ولانصدق ماشاهدناه من تهافت وسماجة متناهية في ذلك الفيلم المبيتة اغراضه ودوافع انتاجه ولاتخفى على أي عاقل ..وفي كل الأحول لكل رأيه ورؤيته ووجهة نظره ولي رأيي ورؤيتي ..فلا ضرر ولا ضرار
نسختان من الفيلم
..
ولكن من الملفت للنظر حقا ..اعلان مخرج ومنتج الفيلم انهما سيسوقان نسختين مختلفتين من الفيلم بحسب الدول والشركات التي ستشتريه ، نسخة ممنتجة سيتم فيها التخلص من المشاهد الأشد عنفا وبشاعة ونسخة اخرى – وهي النسخة التي عرضت في كان وتعرض حاليا في الدنمارك- وهي النسخة الكاملة دون حذف لأي مشهد .
يعرض الفيلم الآن في الصالات الدنماركية (بلد المخرج ) وكذلك في السويد والنرويج ترافقه عاصفة من الآراء المتضاربة ففي الوقت الذي احتفت به مجلة سكوب دي كي الدنماركية ومنحته ستة درجات من ستة ، وكذلك حذت حذوها مجلة بوليتيكن قائلة ( انه قطعة فنية تتحدث عن الحزن والجنس والموت وعن اللامعنى لكل شيء ) ،نجد الناقد السينمائي كلاوس كرستنسين محرر مجلة (ايكو) السينمائية الدنماركية الشهيرة يختلف مع من امتدح الفيلم واشاد به كل هذه الأشادة ومن منحه من النقاد اعلى النقاط ، متهما اياهم بالمبالغة بل انه يذهب الى ماهو ابعد قائلا ان هذا الفيلم هي سقطة المخرج الكبرى ..!!
الناقد سكوت فونداس من مجلة لوس انجلس الأسبوعية منحه نقطة واحدة من اربعة نقاط وكذلك فعل الناقد مايكل سمنت من مجلة بوسيتيف الفرنسية ونفس الترتيب منحه البرتو كرسبي من مجلة لايونيتا بينما منحه الناقد ديرك مالكوم من صحيفة لندن ستاندرد نقطتان من اربع نقاط ايضا .
......................
المخرج لارس فون ترير
مخرج دنماركي من مواليد 1956 في كوبنهاكن ، اخرج حتى الآن اربعة عشر فيلما قبل هذا الفيلم ، منها : عناصر الجريمة 1984 ، ميديا 1988 ، اوروربا 1991، الرقص في الظلام ، 2000، دوكفيل 2003 ،