LE DERNIER VOL
فيلم "الرحلة الأخيرة " للمخرج كريم دريدي....:
بقايا استعمارية والصحراء ملاذ اخير ....
طاهر علوان....
ليس بينك وبين الصحراء المترامية غير الفضاء الشاسع والأفق المفتوح ، ولتلك الصحراء ازمنتها وتحولاتها وهيبتها الخاصة ، وحيث تلتحم الطبيعة مع بعضها لتعويض الفقدان ، فقدان الماء والنبات ، تلتحم الطبيعة في ذلك التوحد بين الأفق الصحراوي وبين السماء الصافية ، ومابين هذا وذاك كان للصحراء سكانها ومريدوها الذين يقرأون صمتها وصخبها وعواصفها ولهيبها الحارق ..مر بها الرحالة والمستشرقون ومر بها المستعمرون ومر بها المهربون واللصوص وكان لكل منهم مع الصحراء غايته .
هي فلسفة المكان الذي تتراجع فيه اطروحات عالم المكان الأشهر ادوارد هال ، تتراجع تماما وتغيب مستويات المكان الثلاثة : الفضاء – المكان – الموضع ، ذلك التدرج مما هو كلي الى ماهو جزئي ومن الأكبر الى الأصغر ، هنا يتعوم المكان وتتخلق علاقات اخرى اذ يحوي الرحم الصحراوي ضمنا كل ذلك التقسيم صعودا
الصحراء هي الفضاء الكلي الذي تعوم فيه شخصيات المخرج الفرنسي من اصل تونسي " كريم ديدي" في فيلمه الأحدث المعروض في الصالات الأوربية ابتداءا من شهر كانون الثاني يناير 2010.
وكان كريم ديدي المولود في العام 1961 قد بدأ مشواره السينمائي بأخراج فيلمه القصير الأول عام 1978 وفيلمه الطويل الأول " بيغال" عام 1994 واختير فيلمه وداعا وداعا في تظاهرة " نظرة ما" لمهرجان عام 1995.وفيلمه "الرحلة الأخيرة" يأتي بعد انقطاع دام خمس سنوات اذ كان آخر افلامه فيلم "صخب" عام 2003
مختصر القصة
تقع الأحداث في ارض صحراوية شاسعة قرب الحدود الجزائرية مع موريتانيا ومالي والنيجر من جهة ، والمغرب من جهة اخرى ، حيث قبا ئل الطوارق ، الأستعمار الفرنسي يخيم على المنطقة بعقليته الكولونيالية الصارمة ، ويرسل ثلة من الضباط للسيطرة على بعض تلك القبائل يقودهم الكابتن لويس(الممثل فريدريك ايبود) وفي المقابل هنالك مساعده الضابط انطوان (الممثل غوام كانيت ) الذي يرتبط بعلاقة غرامية مع فتاة من الطوارق بينما شقيق تلك الفتاة وقبيلتها متهمان بقتل ضابط فرنسي ، الا ان انطوان يتمتع بعلاقات طيبة ميحظى باحترام الطوارق ، خلال ذلك تصل ماري ( الممثلة ماريون غوتيلار) الى تلك الصحراء القاحلة بطائرتها الشراعية باحثة عن حبيبها الطيار الذي اختفى بعد سقوط طائرته ، وعلى الأرجح انها سقطت في تلك الصحراء ، تحاول تلك الفتاة الفاتنة اقناع الكابتن لويس ان يساعدها في العثور على حطام الطائرة ولكن من دون جدوى ولهذا يتركها لمصيرها ، ولأن ذلك الضابط المتعجرف مصمم على الأيقاع بالطوارق والأنتقام منهم تجد الفتاة نفسها مجبرة على الأنضمام الى قافلة الديش المسنود ببعض من الطوارق في تلك الرحلة الشاقة في اعماق الصحراء المترامية ليتغير مسار الأحداث بعدها بانظمامها الى الضابط انطوان والهرب من سطوة القائد الكابتن لويس ولكن الى اين ؟ الى المجهول ، الى متاهة صحراوية لاحدود لها تنتهي بشبه موت انطوان بسبب مرضه ومعاناة ماري وهي تصارع ذلك الموت والضياع في وسط الصحراء ايما وليال .
البنية السردية والحكائية
مما يلفت النظر في تأسيس البنية السردية لهذا الفيلم هو النجاح في اختيار عينة صغيرة مكونة من بضعة جنود وبضعة مرتزقة من الطوارق ولتجري احداث تعكس وقائع عدة من العصر الكولونيالي الفرنسي واستعمار الشمال الأفريقي خاصة .
انها منظومة سردية اعتمدت على بنية حكائية جزئية ثم سرعان ماتطورت الى منظومة سردية كلية وشاملة شكلن بنية الفيلم الحكائية .وتمثلت تلك البنية الحكائية الجزئية في العدد المحدود من الشخصيات والأحداث التي بالأمكان ان تحيل الى مستويات سردية اعمق يمكن اجمالها فيما يأتي :
المستوى السردي الأول / يرتكز على محور الكابتن وجنوده ، انه مستوى يؤسس لأسباب وجود كل اولئك ويؤطر دوافعهم وحاجاتهم على اساس مايقرره الكابتن فهو يشكل بوتقة السرد ومحرك الأحداث .
المستوى السردي الثاني / ومحوره هو الضابط " انطوان" والذي تتعدد شبكة حركته في البناء السردي لبتداءا من صلته بالفتاة من احدى قبائل الطوارق ، صلته بالقبائل ، اتقانه لغتهم ، احترام عقيدتهم ومجتمعهم ، الميل الى الحوار والسلم وعدم المجابهة والحرب معهم .
المستوى السردي الثالث / وهو مستوى تشكل" ماري" الفتاة الباحثة عن صديقها محورا له ، وهي جزء من تأطير سردي جانبي الا انه سرعان مايتحول متجذرا في المستويين الأول والثاني ، الأول من خلال محاولة الكابتن استمالتها دون جدوى والثاني من خلال اعجابها بأنطوان وخوضها المغامرة معه في عمق الصحراء .
التحولات السردية
تتمثل التحولات السردية في تدفق الأحاداث وبث المعلومات ، فهنالك كثافة في التحولات السردية قوامها خطوط عريضة للمعلومات ممثلة في خط الفتاة التي يكاد المخرج وكاتب السيناريو ان يجعلانها في بحثها عن المفقود هي محور التحولات السردية ولكن مسار الأحداث في الفيلم تجعل للتحولات السردية امتدادا آخر يتمثل في التضاد الفكري والمعنوي مابين الكابتن وانطوان ، ولأن انطوان عنصر متحرك صانع لتلك التحولات فقد كانت التفاتة ذكية من لدن كاتب السيناريو الى ادماجها مع صانع التحولات السردية : انطوان" من خلال التقائهما في هدف واحد هو خوض المغامرة في غمار الصحراء .
وعلى هذا يمكن التوصل الى مقتربات التحولات السردية في الفيلم من خلال مايأتي :
- امتداد علاقات انطوان بالطوارق الى مستوى يجعل وجوده في الجيش الفرنسي الغازي وجودا مربكا يجر ارادة الكابتن جرا الى الوراء .
- بسبب النزعة العدوانية للكابتن وغيرته الشخصية من " انطوان " فأنه يشكل عنصر اعاقة في التحولات السردية كما يقول البنيويون من خلال اتخاذ قرارات لاترضي انطوان وتاليا تتسبب في صراع حاد بين الطرفين ينتهي باعتقال انطوان .
- تراجع الأثر السردي والدرامي الذي تشكله الفتاة ، اذ لم تتمكن من ان تكون ( فاعلا) و(ندا) دراميا قويا ومؤثرا في التحولات السردية الا في جزئية تبدو مربكة ومقلقة ، الا وهي قرارها الأنضمام الى انطوان في الهرب والتخلص من سطوة الكابتن وغطرسته ، اذ لاتحيل الأحداث لا اليها ولا الى انطوان على ان ايا منهما على انفراد قد صنع ذلك التحول في الأزمة ، الا انهما معا كانا صانعين لذلك التحول .
الصراع الشرس : تصعيد الدراما الفيلمية
لاشكان الصراع المحتدم مابين انطوان والكابتن قد قاد الى مساحة واسعة من التحولات الدرامية .فأنطوان الرافض لفكرة الحرب ومواجهة قبائل الطوارق والجوء الى لغة العقل والحوار هو الذي سيكون سبب في المجابهة الدرامية والصراع الشرس مابين الطرفين والذي سيفضي الى عراك بين الطرفين ينتهي بأدماء وجه الكابتن واعتقال انطوان ولاحقا هربه الى عرض الصحراء بمساعدة من الطوارق .
الدراما الواقعية هنا هي دراما نوازع الهيمنة والغطرسة ونزعة السيطرة التي تستحوذ على الكابتن المتعصب القادم الى تلك الأصقاع بعقلية امبراطورية لأركاع واخضاع الخارجين على القانون كما يسميهم هو واعادتهم الى بيت الطاعة .
لكنه يجر معه مجموعته الى متاهة في قراره التصدي للطوارق ومحاربتهم ، ففي تلك الصحراء الشاسعة التي هي بيت الطوارق وفضاءهم يريد الكابتن ان يفرض عليهم الأمر الواقع وهو امر من الصعب بلوغه الا ان تزمت الكابتن وتفرده بالقرار تقود الى الأنقسام وهرب يعض الطوارق المساندين وتمرد انطوان وتصدع سلطة الكابتن وقواته .
ولعل تفصيلات جانبية اخرى قد عززت تلك الدراما من خلال تحول الصراع مابين الكابتن وانطوان الى استقطاب شرس لايقبل الهوادة افضى الى هرب انطوان بعيدا عن الكابتن ونزعته العدوانية وحروبه المقبلة .
ولقد اجاد كاتب السيناريو في رسم التحول في البناء الدرامي من خلال تتبع افعال الشخصيات وحتى الثانوية منها اذ صنع نسيجا مكتملا دراميا فيه قليل من الشخصيات الفاعلة ولكنها فعلها على ضآلة ومحدودية ادوارها هو فعل كبير ، أي انها ليست هامشية ولهذا لايجد المرء نفسه الا متعاطفا مع تلك الشخصيات وخاصة انطوان والطوارق وماري الباحثة عن حبيبها في الصحراء.
.
التصوير والموسيقى
لابد لي من التوقف بكثير من الأعجاب بجهد فريق التصوير وخاصة مدير التصوير ( انطوان مونو) فلقد تجلى واضحا ادراكه ووعيه الكامل لخصوصية المكان وبالرغم من طابع التكرار ورتابة المكان الصحراوي بطبيعته الجغرافية اذ لاشيء سوى الرمال ، الا ان تلك البيئة الرتيبة تحولت الى فضاء ابداعي مؤثر بالنسبة لمدير التصوير اذ كسر تلك الرتابة وتجلت الصحراء في الكثير من المشاهد ومن خلال انتقاء الزوايا بعناية وانتقاء وقت التصوير ، تجلت في شكل مختلف محمل بجماليات المكان وشيفراته الدالة ، فغاليا ماكان الكابتن ومن وراءه افق مقفل بينما كانت رحلة انطوان مع ماري محملة بالتنوع الجغرافي مابين تلال ووديان ومساحات مفتوحة ، تنويع جمالي خلاق تنقل فيه مدير التصوير بين ازمنة واماكن وجد فيها كاتب السيناريو قبل ذلك افقا محملا بكثير من عناصر التعبير والتأثير .
في المقابل وظف الثلاثي جبران الموسيقى الشرقية بطريقة مؤثرة هي الأخرى فقد اقتصدا تماما في استخدام الموسيقى ولاتشعر بضجيجها ولا بفقر الآلات الشرقية في ان تستخدم في الموسيقى التصويرية اذ هي بحاجة الى وعي مختلف واشتقاقات موسيقية متقنة تخرج عن رتابة التخت الشرقي والناي الذي يصرخ والطبلة المدوية ، نعم استخدم الناي والدف والعود ولكن في اقل قدر ممكن وبما يضفي على المشاهد عمقا وحيوية
وجمالية والا بدت شاذة ومبالغ فيها فيما لو زادت عن تلك الحدود
....
يثبت دريدي مرة اخرى انه مخرج متميز في صنع فيلم متميز سواء بأداء الممثلين والمعالجة الفيلمية وبناء الأحداث وصنع الدراما .
بطاقة الفيلم
السيناريو / كريم دريدي و باسكال ارنولد
عن كتاب الرحلة الأخيرة للكاتبة سيلفيان ايستيبال
التصوير / انطوان مونو
المونتاج / ليز بيليو
الموسيقى/ الثلاثي جبران
انتاج / شركة جومونت ومساهمين آخرين
الطول / 86 دقيقة
البلد/ فرنسا
عن المخرج المتميز كريم دريدي
أخرج فيلمه القصير الأول "في الكيس" عام 1987. وأخرج فيلمه الروائي الطويل الأول "بيغال" عام 1994. تم اختيار فيلمه الروائي الثاني "وداعاً، وداعاً" لمهرجان كان السينمائي ثم قدم فيلمه (خمسة) سيناريو وانتاج وإخراج : 2008ا ثم فيلم( الرحلة الأخيرة (سيناريو و إخراج – 2009