وسرعان ماتكتسب المسألة اطارا اوسع عندما يجري تحليل الفيلم على انه نمط من انماط التلقي وبذلك ستتكون سلسة تلقيات ترتبط ربما في وجه من الوجوه بالحكاية ذاتها .
اذا ... هنالك من يحكي ومن يحكى له ... وكانت مطولات الف ليلة وليلة دالة على هذا النمط المتشابك للمرويات وللبناء الحكائي المجرد ... وعندها ترسخ وجود كائن نهم للحكاية مولع بالنهايات السعيدة ، مأخوذ الى نمطية تغريبية تفرغ اي شكل من محتواه سوى محتواه الحكائي...
لكن ... اذا كان هنالك تدفق متكامل للبناء ... تدفق لهذا المروي الشامل والكثيف والمتنوع الذي ورثه المتلقون من اساطين الدراما ومن مدرسة ارسطو اساسا ... اذا كان هنالك مثل هذا التدفق المعبر عن البنية الروائية ... فماذا عن تلك المساحة الزمانية / المكانية / الحكائية للفيلم القصير ؟
اعتاد جمهور الفيلم على تلك السيرة الشائقة المتكاملة التي يمثلها الفيلم الطويل بينما استكان المتلقي حائرا في ( اين يضع الفيلم القصير في اولويات المشاهدة التقليدية ؟ ) فهو ليس الفيلم التسجيلي الذي طغى عليه الحس الخبري والذي عمق كينونته ( الأندلاع ) التكنولوجي الممثل في الفضائيات والتوابع الأرضية ، حتى صار فيلما اخباريا / سياسيا اكثر من انتمائه الى بول روثا او جريرسون او بازيل رايت او غيرهم .
هي اذا فاصلة مبهمة وغير واضحة الملامح ( عربيا ) في اين يصنف الفيلم القصير وما موقعه جماليا وفي اطار التلقي المجرد ... هذا التداخل ربما قاد قدما الى البحث في ( ثيمة ) او ( ثيمات ) القصير ... اين هي الدراما واين هي الحكاية ؟
واقعيا لايمكن قراءة الفيلم القصير على انه امتداد عملي (مضغوط ومكثف او موجز) للفيلم الطويل ، كما لايمكن عد القصة القصيرة تكثيفا واختصارا للرواية ، وهنا سيجري بحث في (تصنيف to classify ) الفيلم القصير في موازاة الفيلم الطويل وفي موازاة الفيلم التسجيلي .
ويبرز هنا مشكل يتعلق بالمنظومة التي يتحرك في فضائها هذا النسق المرئي والمسموع والمتحرك ، منظومة التجنيس التي تؤهل الفيلم القصير لأمتلاك خواصه المعبرة عنه والتي تيسر فاعلية تداوله على كل المستويات . هذه المنظومة التي ترسم حدود الشكل الأبداعي للفيلم وتميزه عما سواه من الوسائط الأخرى . ربما هي جدلية مخالفة لما هو سائد من مفاهيم ومعطيات تعد الفيلم القصير كيانا متحققا واقعيا وهو جزء من فاعلية تجريبية وانتاجية لااكثر فهو ليس جزءا من ذلك الزخم الذي يستند اليه الفيلم الطويل والمستند اساسا على طابع الأستهلاك اليومي الذي طبع الفيلم الروائي الطويل وتاليا تحوله الى مفردة تداولية في الحياة المعاصرة تعززه ماكنة الأنتاج الصناعية التجارية الأشهارية ... وتيسره التكنولوجيا الحديثة اكثر فأكثر من خلال الأقراص المدمجة والأنظمة الرقمية .
لقد خلق هذا مناخا حيويا للمنافسة في حقل الفيلم الطويل لم يتوفر بنفس الشروط والمكونات للفيلم القصير لأسباب شتى اولها ما هو عملي مرتبط بركنين هما التداول والأستهلاك الفردي ذا الطابع التجاري .
وعلى هذا ورث الفيلم القصير تقاليد مشاهدة راسخة ، حتى ان الصالات ظلت حتى الساعة مكرسة للميلودرامات التقليدية ، للبنى الكلاسيكية الأكثر واقعية وعينها على المشاهد الموزع مابين الأنواع GENRES الفيلمية ، هذه الأنواع هي المهاد الموضوعي الآخر لقراءة الفيلم الطويل ، هي المنظومة النقدية التي تؤهل الفيلم الطويل للأنتماء الى ذاته والى النوع فهو نوع درامي او خيال علمي او جريمة او غير ذلك .... وعلى هذا صرنا امام سؤال آخر يواجهنا ونحن نقرأ جدلية الفيلم القصير تتعلق هذه المرة بالأنتماء للنوع الذي يجب ان ينسحب فيه الفيلم القصير الى منطقة تخصه وتميزه عما سواه من الأنواع الفيلمية .
واذا كانت استراتيجية الفيلم القصير ذات طبيعة زمانية في المدخل الأول للتصنيف من منطلق التمهيد من خلال الأسم ( انه فيلم قصير الطول ، انه فيلم لايأخذ وقتا طويلا في العرض ، انه فلاش سريع ربما) وهكذا تمضي القراءة الزمانية في شكلها المبسط لدرجة الأخلال بمفهوم الزمن وخلخلته .... وكل هذا بالطبع يأتي من وجهة مشاهد عجول ولايجد متسعا للمضي مع ميلودراما تقليدية ربما وهو قادم لمشاهدة هذا الفيلم القصير اساسا ... هذه الأستراتيجية الزمانية التي تحيل الى سلسة متتابعة من المعطيات هي التي حكمت بناء الفيلم القصير وأطرته ، اطرته من جهة المحمول الحكائي الذي افتتحنا به الحديث في بنية الفيلم القصير ، وربما كان منطق الحكاية واحدا الى حد ما من وجهةPROPP في استقصائه الزماني للحكاية الشعبية وفرضياته بتحقق الدراما ووصولها بالبطل ومن خلاله الى الهدف او الأهداف ..
اما عند الذهاب الى الصورة فنجد بارت يؤكد ان الصورة لا تستطيع أن تسرع أو ان تبطئ من غير ان تفقد هيأتها التي تدرك حسياً وان الصورة الساكنة باقامتها قراءة (لحظوية) وعمودية في الوقت نفسه تهزأ بالزمن المنطقي، وهي تعلمنا فصل القيد عما هو سينمائي محدد ومن ذلك الذي لا يوصف.
إن هذا هو ما دعا اليه ايزنشتاين بقوله ان الفيلم هو ليس ما يُرى وما يُسمع، بل ما يفحصه المرء وما يصغي اليه إصغاءً شديداً، وهذه الرؤية هي التحول الحقيقي في القراءة.. وقراءة النص والفيلم لكنها على اية حال ليست الا قراءة زمانية فيما يتعلق بالفيلم القصير ، وبصدد القراءة اللحضوية التي يعبر عنها بارت فأنها قراءة ربما كانت اقرب للفيلم القصير هنا ، من منطلق الأدراك المسبق ان هذا الفيلم يبنى على استراتيجية زمانية للوصول الى الدراما وتحققها او اكتمالها . وفي كل الأحوال فأن قراءة مجردة للفيلم القصير لايمكن الا ان تمر بهذه المعطيات كي تكون ذات معنى .
ولعل من الملفت للنظر على هذا الصعيد النظرة البانورامية المتسعة التي لاترى في الفيلم الا انه بناء حكائي قد تغلغلت في بناه ومكوناته مسيرة زمنية هي ليست غير ( زمن الأحداث ) وهي سلسلة متحققة ولاسبيل للخروج منها وانها معطى بديهي من بديهيات البناء الفيلمي وان السعي لقراءة الفيلم زمانيا لابد وان تمر بهذا المعطى الحيوي والركن الفاعل في البناء الفيلمي .
واما بصدد مااشرنا اليه من قبل عن تدفق المروي الشامل والكثيف والمتنوع الذي ورثه المتلقون من اساطين الدراما ومن مدرسة ارسطو اساسا ... اذا كان هنالك مثل هذا التدفق المعبر عن البنية الروائية ... فماذا عن تلك المساحة الزمانية / المكانية / الحكائية للفيلم القصير ؟ وهو سؤال يوجب استقصاء الفيلم القصير حكائيا ومن منطلق بنيته الزمانية / السردية وربما كان هذا هو احد اهم الأركان الفاعلة والمهمة في معمار الفيلم القصير والذي يوجب قراءته عميقا.
واذا كان هنالك من منطلق يتعلق بالنص كمجرد بصرف النظر عن كونه نصا لفيلم طويل او قصير فأنه يتعلق بكون كلا الفيلمين ينطويان على بعد حكائي وبحسب جاكوبسن ، فاننا ازاء بنية مجردة للنص وما تنطوي عليه من علاقة بين الرسالة التي لها نسقها المرتبط بالنص وشفراته الخاصة، تلك التي تتمظهر في الكلام المروي أو الرسائل التي تنقل داخل النص نفسه. يضاف لذلك إدراكنا لبنى مزدوجة تنطلق من قاعدة معرفية تفسر الرسالة عبر تفسير الشيفرة. ونجد ان هذه المعطيات الداخلية للنص تعززها وجهة نظر توماشفسكي، مثلاً في تحديده للمتن الحكائي للنص، بوصفه عرضاً لمجموع الأحداث المتصلة فيما بينها، والتي تكون المادة الأولية للحكاية، وبموازاة ذلك يبرز المبنى الحكائي، بوصفه نظاماً خاصاً بالنص لطريقة ظهور الأحداث في المروي ذاته.
ان هذه الخلاصة المهمة من توماشقسكي انما تؤطر كثيرا من القراءات للفيلم القصير من جهة استراتيجيته الزمانية وبنيته الحكائية ، فهو في كل الحالات نظام للمروي ، اي نظام خاص بالفيلم ذاته كمحمول سردي مجرد . وهي هنا فرضية تضع في المرتبة الأولى النظر الى الفيلم على انه كيان سردي قائم على التتابع الحكائي .
لكن هنالك استدراكا ربما يبرز عند قراءة الفيلم التجريبي وافلام السينما الشعرية ، هذه التي لاتنتظم في اسس البناء الحكائي للفيلم القصير الدرامي . ... وواقعيا نحن امام نمط من الأفلام لاينظر اليه ايا كان نوعه الا من خلال استراتيجية زمانية / حكائية اكثر من اي شيء آخر