FESTIVAL INTERNATIONAL du FILM INDEPENDENT 2008
فيلم " ليلة البيبي دول" يتوج في مهرجان السينما المستقلة ببروكسل :
هل تنجح السينما في ايجاد حلول لأزمات العرب المستعصية ؟
د.طاهر علوان
ربما كان من المفيد ونحن نقرأ واقعنا العربي ومعضلاته المزمنة ان نوجه انظارنا صوب الأبداع في الفنون وكيف انعكس ذلك الواقع في ذلك الأبداع وخاصة في السينما ..وتلك مسألة مفصلية اساسة لابد من تأشيرها بسبب شمولية السينما وقربها من مساحات عريضة من الجمهور وقدرتها على قراءة الواقع قراءة موازية وعميقة .
لكن هذه الفرضيات كلها ستصدم سريعا بما نحن فيه من حال .. فتراجع السينما العربية انتاجا وتوزيعا وموضوعات لايخفى على احد ولهذا كانت الأفلام العربية القليلة التي يتم انتاجها سنويا مطالبة بقول الكثير مما لم تقله افلام عربية كثيرة كان ينبغي انتاجها لكنها لم تنتج ابدا وبقيت مجرد احلام تتراقص في مخيلات السينمائيين وجمهور المشاهدين على السواء .
من هذا انطلق في قراءة فيلم ليلة البيبي دول الذي شارك مؤخرا في المهرجان الدولي للسينما المستقلة في دورته الرابعة والثلاثين التي اقيمت في بروكسل ونال جائزة افضل سيناريو .
جاء الفيلم في اطار اهتمام وتكريس متميز من المهرجان ..من جهة دعوة ابرز نجوم الفيلم ، المخرج عادل اديب والممثل نور الشريف والمنتج ..هذا فضلا عن حضور كثيف وملحوظ للجاليات العربية وخاصة المصرية حيث اكتظت بهم صالة السينما مع استضافة نجوم الفيلم وترحيب حار بهم قبل العرض وبعده ..
اذا ..هي احتفالية كبيرة بالبيبي دول ، الفيلم وطاقمه ربما لم يحظ به في مهرجانات عربية ..!
المهم ..ان الجمهور العريض كان ازاء وجه آخر للسينما العربية والمصرية خاصة وهي تتصدى لقضايا حساسة تشغل العقل العربي والغربي على السواء بل وتشغل البشرية جمعاء في يومنا هذا مثل قضايا الأرهاب واحتلال العراق والقضية الفلسطينية وصورة الأنسان العربي وحياته اليومية ودور السلطة وصورتها ممثلة في اجهزة الأمن التي تكتم على انفاس الحريات وتستأصل الأمل من اجل استمرار الحال السلطوي الى امد غير محدود ..
محاور اساسية ومقتربات حساسة
يحكي الفيلم قصة تتعلق بأحداث تقع خلال العام 2007 وبضعة سنوات قبله لكنه ينطلق من واقعة الحادي عشر من سبتمبر ايلول التي يعيش فصولها ( حسام – الممثل محمود عبد العزيز)، الذي يعمل مرشدا سياحيا ويصادف وجوده في الولايات المتحدة مع وقوع الحدث ، وبينما تنشغل الناس بتلك الواقعة واصدائها ينشغل حسام بالأستعداد للعودة الى مصر بعد غيبة عام كامل وبصحبة وفد امريكي وسنعرف فيما بعد ان سبب بقاء حسام في امريكا لعام كامل كان للعلاج من العقم ، ولهذا يقدم حسام مشاهد كوميدية وهو يشتري هدية لزوجته وهي قميص نوم – بيبي دول – وفي طائرة العودة سنتعرف على ليلى علوي وهي يهودية امريكية تترأس جمعية للحوار والسلام وجاءت لحظور مؤتمر في القاهرة . الحوار معها يكشف اتقانها العربية ومعرفتها بالواقع العربي خلال ذلك وبعد وصول الوفد الى المطار يكون هم حسام الأول هو ملاقاة زوجته حالما بشهر عسل جديد معها ، فيما تجري في المطار تحوطات استقبال الوفد الأمريكي ويكون الأرهابي عوضين الأسيوطي (نور الشريف) مراقبا كل شيء عن كثب ومستعدا لتفجير الفندق الذي يقيم فيه الوفد وهو يصحب سائق سيارة الأجرة (شكري )الممثل السوري جمال اسماعيل الذي يشاركه نزعاته الثورية ولكنه يخالفه في استهداف الأبرياء ، والصدفة وحدها تجعل حسام ان يلتقي بسائق سيارة الأجرة هذا ويتعرف من خلاله على مسيرة عوضين الأسيوطي اذ سنعرف ان سائق سيارة الأجرة كان قد اعتقل بتهم سياسية ايام كان طالبا جامعيا وكان عليه ان يختار تهمة واحدة من اثنتين تختصر في كلمتين هما : هل انت ( اخ) ام ( رفيق) ، أي هل انت من الأخوان المسلمين ام من الشيوعيين ؟ ولأنه ليس من الأثنين فأنه يجبر بالضرب على ان يختار احدهما والأسيوطي هو الذي سيخلصه من كثير من المشكلات في السجن والأسيوطي ايضا ذا وجه آخر فهو علاوة على نضاله الطلابي واعتقاله فأنه احد العائدين من افغانستان والمطلوبين للعدالة.وهو ايضا سافر للعراق مساندا ( مقاومة ) الأحتلال بينما صديقته المراسلة الصحافية يلتقي بها في بغداد بعد سنين وهي تغطي الأحداث الساخنة في الشرق الأوسط وهي اختارت تلك المهنة : مهنة المصاعب تخلصا من حب قديم ربطهما ؟ واما صديقته الأخرى الناشطة اليهودية من اجل السلام فتسحقها دبابة اسرائيلية وسط الأحتجاجات وهو يعتقل في ابو غريب ويعذب ويعتدى عليه جنسيا واما حسام فهمه ترتيب ليلة لقاء حميمة مع زوجته سميحة (الممثلة السورية سولاف فواخرجي) دونما جدوى .
مسار الشخصيات وتحولاتها
يكتظ الفيلم بالعديد من الشخصيات التي يعيش كل منها ازماته ومشكلاته الخاصة ابتداءا من القاع حيث السائق زغلول ( الممثل احمد مكي ) الذي يتعاطى المخدرات هربا من واقعه وهو خلال ذلك يطرب لأغنية شعبية شائعة للمطرب شعبولا : انا اكره اسرائيل ، وهو يكررها مرارا وهكذا تصبح قضية فلسطين والأسرائيليين واحتلال العراق وامريكا والمساعدات الأمريكية لمصر ، تصبح كلها محور احاديث متشعبة وطويلة تارة بين السائق والأرهابي الأسيوطي وبين حسام وصديقه السائق وبين حسام والمسؤولة الأمريكية وبين حسام وخاله الثري عزمي (الممثل عزت ابو عوف ) الذي يسعى لتمرير صفقات تجارية مع الوفد الأمريكي الذي يكون احد اعضائه جنرالا امريكيا متداعيا كان المسؤول عن التعذيب في سجن ابو غريب هو الجنرال بيتر (الممثل جميل راتب ) وتشاء الصدف ان يكون حاضرا في الوفد .ويتحول الحديث عن هذه القضايا اليومية والأساسية التي ينشغل بها العرب والعالم الى شكل من المحاضرات المطولة والسجالات التي تدين اسرائيل لماتفعله بحق الفلسطينيين وتدين خاصة بوش لقراراته بخوض الحرب وان الأرهاب في العالم ماهو الا رد فعل لما تقترفه امريكا واسرائيل ..هذه هي الرسالة التي يريد الفيلم ايصالها ولكن وسط كم كبير من الحوارات المطولة التي تحتاج الى كثير من التشذيب والتكثيف وترك الصورة لتتكلم بدل تلك الحوارات الطويلة .
المزيج بين الكوميديا والتصعيد الدراماتيكي
نجح المخرج وكاتب السيناريو الى حد كبير في الموازنة مابين ذلك الثقل في التصعيد الدرامي وحوارات الشخصيات الطويلة وبين المشاهد الكوميدية ومحاولات حسام اللقاء والأنفراد بزوجته عازفة الجلو حيث باعت شقتها قبل وصول زوجها وسكنت مع صديقة لها ولهذا صار همهما هو اللقاء والأختلاء لليلة واحدة قبيل العودة الى الولايات المتحدة ، لكن كل الظروف المحيطة بهما تقف ضدهما سواء في الفندق الذي يفترض ان يسكن فيه حسام او في استعارة شقة صديقة الزوجة وصولا الى شقة صديق حسام السائق الذي يقتله الأرهابي الأسيوطي لشكه في الأبلاغ عنه .
وخلال ذلك تصبح شخصية حسام هي الموازن الموضوعي للأحداث الدراماتيكية المأساوية التي يعج بها الفيلم من مشاهد الحرب والقتل والتعذيب ..اذ كانت اطلالته مقترنة بتحول في مسار الدراما كما انه ينجح الى حد كبير في اجتذاب المشاهد لأداءه وكل همه هو لقاء زوجته كي ينجبوا اولادا تتخيل الزوجة سحناتهم وملامحهم ولون شعرهم وعيونهم ..اما حسام القادم من امريكا فقد ضاعت حقيبته التي فيها هديته لزوجته وهي قميص النوم بيبي دول الشهير وبينما يبحث حسام عن حقيبته وفيها البيبي دول فأن الأرهابي الأسيوطي يبحث في المقابل عن الريموت كونترول الذي يزمع استخدامه لتفجير الفندق وتجري كل تلك المجريات على خلفية حدثين هما زواج احد العاملين مع حسام في السياحة في تلك الليلة واحتفال الجميع بليلة عيد الميلاد بقدوم العام الجديد .
صورة احتلال العراق
يحضر المشهد العراقي بشكل واسع في هذا الفيلم وخاصة فيما يتعلق بأصداء الأحتلال ومخلفاته لكن ليس عن بعد بل يعمد الفيلم الى تقديم صورة عن قرب من خلال سفر الأسيوطي ، صاحب التاريخ السابق في افغانستان للألتحاق بمن هم ضد الأحتلال ، لكنه بدل ان يكون قريبا من الواقع العراقي حقيقة فأنه يمارس مقاومته من احد فنادق الخمسة نجوم في بغداد والتي يقيم فيها الصحافيون عادة ولهذا تقع المصادفة في لقاءه بفتاة كان قد فارقها لسنوات ويجدها تعمل مراسلة صحافية في الأماكن الساخنة من العالم من فلسطين الى العراق الى افغانستان الى جنوب لبنان معرضة نفسها الى الخطر لا لشيء الا لغرض ان تنسى قصة حبها مع الأسيوطي ..!
في كل حال يلتقي الأسيوطي مصادفة ايضا مع الجنرال الأمريكي المسؤول عن سجن ابو غريب ولايمر وقت طويل حتى يحل الأسيوطي نفسه ضيفا على ذلك السجن . ولعل واحدة من العلامات الفارقة في الفيلم هي قيام المخرج باستنساخ احوال سجن ابو غريب الرهيب حيث يجري تعذيب الأسيوطي بشتى صنوف العذاب من الصعق الكهربائي الى نهش الكلاب الى الأغتصاب وانتهاءا بقطع عضوه الذكري ولهذا تنشأ في نفس الأسيوطي نزعة الأنتقام .
واذا كنا بصدد الحديث عن صورة العراق في الفيلم فأن ما يسجل على الفيلم التقصير في الأستعانة بشخصية عراقية او اكثر في الفيلم ولهذا بدا مشهدا ممجوجا وركيكا ذاك الذي قدم محاولة موظف الفندق الكلام باللهجة العراقية دون جدوى وحيث لم يوفق في ذلك .
وتكرر الأمر ولكن بشكل اضعف وذلك في مشهد ركوب الأسيوطي سيارة الأجرة الى جانب سائقه العراقي المفترض ( الممثل محمود الجندي ) الذي يحدثه عن العراق واحواله وذلك في بيئة تتساقط فيها الثلوج ولا ادري اين مكان تلك البيئة اهي في شمال العراق مثلا ؟ المهم ان السائق بلهجته التي هي خليط من لهجة الصعايدة والخليجيين والشوام وبضع مفردات عراقية ركيكة ، يسعى الى نقل صورة الواقع العراقي الذي لايختلف كثيرا عما تنقله الفضائيات المحرضة على الكراهية والعنف الطائفي ولهذا تتكرر لازمة احوال العراق قبل الرئيس المخلوع وبعده لدرجة ان ذلك السائق يقرر ان الحال كان افضل مما كان عليه الآن ويردد القصص نفسها المسموعة عبر الفضائيات من الصورة النمطية للعراقيين .
قصص متعددة في فيلم واحد
يبدو ان صانعي الفيلم ارادو قول كل شيء ومناقشة اغلب القضايا الراهنة من خلال هذا الفيلم ..اذ لو تمت مناقشة كل قضية على حدة لكانت هنالك حاجة لأكثر من فيلم واحد بسبب تعدد الأفكار التي حملها الفيلم والتي عجز احيانا عن نقلها بالصورة ولهذا كان البديل الأسهل هو الحوارات ثم الحوارات : حوارات مطولة مسهبة مترهلة تكرر مايسمعه ويعيشه المواطن العربي من مشكلات مزمنة وبعضها كان اقرب الى الخطب منه الى لغة الحوار السينمائي الذي يحتاج الى لغة مكثفة موجزة ودالة ولهذا كان بالأمكان اختصار كثير جدا من الحوارات .
لقد كان من صالح الفيلم لو تم اختصار الأفكار العديدة التي ناقشها اذ بدا امرا غريبا ان كلما ذكر اسم بلاد فيها ازمات ان تذهب الى هناك الا اذا كانت هنالك ضرورة درامية لذلك ..والا ما جدوى نقل مشهد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر التي ظهرت في الفيلم من وجهة نظر حسام وما هو الفرق فيما لو سمع عنها او شاهدها على شاشات التلفزيون ؟ والمسألة الأخرى الغريبة : هي انه بمجرد ان تذكرت تلك السيدة الأمريكية اليهودية ابادة جدتها وجدها في معسكرات الأعتقال النازية فقد تم مباشرة الأنتقال الى هناك ..رغم انه لابد من الأشارة بكل اخلاص ان مشاهد المعتقلات النازية كانت من اجمل المشاهد في الفيلم في بنائها وفي الشخصيات والأجواء لكن لم يكن هنالك من رابط قوي بينها وبين مجريات الفيلم اذ لايعقل ان كلما مر بأحدى الشخصيات ذكرى يتم نقل تفاصيلها وكذلك الحال في مشهد التظاهرات المؤيدة للسلام ضد الجيش الأسرائيلي والتي انتهت بفاجعة سحق صديقة عوضين الأسيوطي تحت عجلات دبابة اسرائيلية .
واستمرارا للترهل وتعبيرا عنه حصل ذلك الأنتقال الغريب والتحول المفاجئ في شخصية حسام الذي كان في اول حواراته مع صديقه سائق سيارة الأجرة بعيدا تماما عن السياسة ، حذرا في اجاباته واذا به يتحول فجأة الى ثرثار كبير في السياسة ومتشدد جدا في آرائه ودون ان يكون لذلك التحول من سبب ملموس او دافع حقيقي .
جماليات التصوير والأضاءة والموسيقى
مما لاشك فيه ان التصوير احتل مرتبة مهمة من ناحية الكفاءة والجودة اذا ابدع مدير التصوير الأنكليزي( هوج مانلي) في نقل مشاهد الفيلم بطريقة متميزة عبرت عن اجواء محتقنة تارة واجواء كوميدية تارة اخرى ومابين النقيضين كان مدير التصوير متمكنا في ملاحقة الشخصيات وتتبع افعالها بطريقة متقنة ومبدعة وكذلك الحال في استخدام الأضاءة وحركة الكاميرا .
وبدا الجهد الكبير ايضا في المونتاج (مونتاج منى ربيع ) وذلك بسبب كثرة التفاصيل وكثرة الأنتقالات المكانية من بلد الى آخر ولهذا كانت مهمة المونتير ليست بالسهلة على الأطلاق اذ ان المخرج في كل هذه الأنتقالات السريعة والمتلاحقة قد اضاف الى كاهل المونتير اعباءا اضافية نجح في حلها بنجاح .
وينطبق الأمر على الموسيقى التصويرية اذ اجاد ياسر عبد الرحمن في استخدام الموسيقى وزجها في صميم حركة الفيلم كما انه وازن بين طبيعة الموسيقى المستخدمة بحسب البلد الذي تجري فيه الأحداث