...طاهر علوان...
..معالجة سينمائية متميزة تخلصت من البكائيات السائدة...
تحضر في ذهني هذه الأيام افكار عن ظاهرة الأفلام العراقية التي صرنا نشاهدها هنا وهناك في المهرجانات وهي لاتزيد على اصابع اليد الواحدة فضلا عن الأفلام قصيرة والوثائقية ، فهذه الأفلام يجد صانعوها انفسهم امام تحديين ومشكلتين اساسيتين ، هما ان ما يقولونه او سيقولونه في افلامهم يجب ان لايكون تكرارا ولا اجترارا ولانسخة مكملة لصور الكوارث والمحن التي عصفت بالعراق سواء في زمن النظام السابق او بعد الغزو الأمريكي لهذا البلد ، ذلك ان وسائل الأعلام وخاصة الفضائيات لم تترك شاردة ولا واردة الا وارسلت كاميراتها وطواقمها لنقلها الى العالم ، ولهذا تعبأ ذهن المشاهد بصور الخراب العراقي وهو يدرك جسامة المحنة وثقل الأحزان التي تفتك بالشخصية العراقية ولهذا يجب الغوص فيما وراء تلك الصورة النمطية وان لايكون الفيلم اجترارا ولا تكرارار من جهة ولا استدرارا لعواطف ومشاعر الجمهور وخاصة الغربي فيعطف على الفيلم ومخرجه وطاقمه فيتحقق الهدف المرجو ..المشكلة الأخرى التي يواجهها صانعوا هذه الأفلام انهم امام واقع صعب ومعقد وخطير ايضا وهو ان ليس من السهل ان تخرج الكاميرا وطاقم الفيلم الى الشارع لغرض تصوير فيلم ما...في ظل هذا كله يأتي فيلم الرحيل من بغداد للمخرج قتيبة الجنابي وهو اول افلامه الروائية الطويلة بعد رحلة طويلة مع الأفلام القصيرة والوثائقية .
والجنابي انسان حالم بمعنى الكلمة ومخلص لمشروعه الأبداعي والأنساني واول ماسيبادرك وانت تلتقي به انه يريد صنع فيلم آخر وآخر ولكنه يحتاج الدعم ...هو بلا دعم ...لايجبد (فن الحصول) على المنح المالية متعددة الجنسيات ، وهو يتحدث عن ذلك ببراءة وصدق ففيلمه ليس عابرا للحدود، هو عاجز عن (شم) رائحة الدعم والتقدم لها ولو كانت في الصين ....هذه مشكلة قتيبة ...الذي لايملك غير كاميرته التي ترافقه اينما حل واقام ...ولهذا هو لن يتوقف عن التصوير والأخراج بتقشف شديد وامكانات تكاد تكون فقيرة..بل انه ضمن نوع المخرجين الذين يعملون من دون ميزانية ..
مختصر القصة
الغوص في الواقع ..ضياع الحلم ...الشخصنة وحب الرموز ..الخيانة وبيع الضمير ..الأغتراب والمنفى ...كل هذه هي مقتربات مهمة للدخول الى هذا الفيلم : طارق (الممثل صادق العطار ) تدرج في ولائه لنظام صدام حسين وحزبه حتى اصبح مصورا خاصا له ، وهو مولع بصور (القائد الضرورة) ووقفاته الشجاعة والكاريزما وكل ذلك تستعرضه ذاكرته من خلال كم من المشاهد الوثائقية من يوميات صدام ، والرجل يستعرض ذلك وهو في مأزق كبير فقد سقط النظام واحتل العراق ، وهاهو المصور يكتب رسالة الى ولده الذي نكتشف فيما بعد انه مفقود في الحرب بينما زوجته تقيم في بريطانيا فيقرر الهرب من العراق خوفا على حياته ورثاءا للماضي السعيد الذي يحن اليه حنينا شديدا حتى تحسب ان الفيلم ماهو الا نوستالجيا وتمجيد لذلك الزمن الغابر ...ويتنقل طارق بين بلدان عدة لانعرفها اذ عمد المخرج على تعويمها وطمسها لنجد انفسنا اخيرا في هنغاريا ، وهناك يحاول العثور على مهرب يساعده في الوصول الى لندن ، وكلما صادف شخصا سأله عن كيفية الوصول الى لندن ، فيتلقى النصائح من هذا وذاك مع تحذير شديد من الوقوع في حبائل المخادعين الذين يأخذون المال ويرمون الشخص على الحدود ...وفي آخر المطاف وبعد اتصالات تلفونية عديدة مع زوجته المقيمة في لندن لكي ترسل له المال ، يعثر على مهرب لكنه يطالبه بمبلغ خمسة الاف دولار هو لايملكها ، فيخرجه من تلك الحجرة التي كان يسكن فيها ، خلال ذلك هنالك من يراقبه ويلاحقه من بعد في سيارة ولانعرف من هو وماذا يريد منه ، لكننا نكتشف ان صورته قد ارسلت الى شخص ما يستدرجه ويأخذ جوازه وينصحه ان يسافر الى بلدة على الحدود الهنغارية حيث من الممكن ان يساعده بعض اقارب ذلك الشخص ويصل الى احد الأرياف ويمضي ليلته في ضيافة فلاح هنغاري ليلاحقه ذلك الشخص ويجهز عليه برصاصة يستحقها لكنه لايموت كما يظهر في الفيلم ، وهو يستحق الموت حقا لسبب هو انه وشى بأبنه الوحيد كونه صار شيوعيا وبدأ يعمل مع المعارضة ضد نظام صدام ، وحرصا منه على الحفاظ على منصبه وامتيازاته في القصر الجمهوري ولكونه مصورا شخصيا لصدام تكون النتيجية انه يقوم بنفسه يتصوير مشهد قطع رأس ابنه بالسيف ..
مابين الروائي والواقعي- الوثائقي
يحرص المخرج منذ البداية على منح فيلمه قدرا كبيرا جدا من الواقعية ، فالتصوير كله يتم في اماكن حقيقية والشخصيات التي ظهرت في الفيلم ليس من بينها ممثل واحد هو ممثل محترف بل اختارهم المخرج من الحياة فضلا عن شحن الفيلم بكم من الصور الوثائقية من وثائق نشاطات صدام اليومية ومشاهد الجلد والتعذيب ، هذا كله دافع عنه المخرج بأصرار ، انه كان متعمدا اتخاذ هذا الحل الأخراجي ، ولذلك بدت هنالك مساحة من الفيلم الوثائقي لايقطعها الا التحول في الكشف عن علاقة طارق بالنظام التي اثبت فيها الأخلاص من خلال الوشاية بالأبن .
واذا فرغنا من كون الفيلم ينتمي الى افلام الطريق فأن المخرج عمد الى التنويع على الموضوع من خلال اثارة موضوع المنفى والتشرد والضياع الذي تعيشه الشخصية التي فقدت الجاه والسلطان واذا بطارق لايكاد يملك قوت يومه .
يمزج المخرج خطوطا عدة مع بعضها ملمحا لموضوع المعارضة الشيوعية متخذا موقف الدفاع غير المباشر عن اليسار العراقي في تصديه للنظام السابق ومن جهة اخرى يمزج ذلك بملمح انساني في حنين طارق لأبنه وهو حنين فطري لكنه يبدو فجا وساذجا عندما يري صورة الأبن للكثيرين ، اذ لا يستقيم ذلك مع تعمده الوشاية به ثم الحنين اليه .
ومن وجهة نظر شخصية لم اكن متفقا مع اختيار المخرج لممثل لم يقف يوما ممثلا محترفا امام الكامير ، كان بحاجة الى ممثل اكثر حرفية وخبرة ، ثم تلاحظ الغياب التام للمرأة التي لم يكن لها دور يذكر في الفيلم وكان بالأمكان لصداق ان يلتقي امرأة في رحلته الطويلة لتمنح وجها آخر للأحداث كما اني لست متفقا مع المخرج في مسألة تعويم المكان في اثناء تنقل الشخصية الهاربية بين البلدان...نقاط وجدت الأشارة اليها ضرورية من دون ان تنال من الفيلم وجهد المخرج شيئا.
استدرار العواطف والتراجيديا التي تتكرر
واضح جدا عدم سقوط الفيلم في معالجته واخراجه في ماسقط فيه آخرون عندما قدموا افلاما او تمثيليات تلفزيونية لذرف الدموع واستدرار عواطف المشاهدين الغربيين خاصة ، وعدم الأمعان في العزف على وتر الفجيعة ، بل انه عرض بموضوعية من خلال طارق الذي هنالك من سيحبه ومن لايحبه ، عرض من خلاله واقع اولئك العراقيين الذين يتنقلون من منفى الى منفى ويبحثون لهم عن بقايا حياة آدمية خاصة بالنسبة لطارق فهو كمن يريد التخلص من ذاته ، لكنه لم يظهر ولا في مشهد واحد مع نفسه وهو يشعر بوطأة تأنيب الذات تجاه مااقترفه تجاه ابنه وهو تجنب آخر للبكائيات وتحريك العواطف ، فهو اراد من طرف خفي محاكمة مرحلة سابقة وراهنة ، فطارق العاشق لصورة قائده (الرمز ) مثله مثل آخرين يهيمون بذلك العشق سواء قلوا او كثروا متجاوزين او متجاهلين كل الكوارث التي حلت بالعراق وكأنها جاءت من المريخ ومن دونما سبب في فتح الأبواب الما آلت اليه الأمور ..
فضلا عن ظاهرة غير مسبوقة انسانيا وتتناقض مع الضمير والفطرة السوية الا وهي الوشاية بأقرب الناس وهو فعل تكرر من نساء قمن بالوشاية بأزواجهن او اخوانهن او رجال وشوا بأبنائهم او العكس ..وكانوا يحصلون على اكراميات في مقابل قتل اولئك الذين وشوا بهم ، وطارق فضل الأمتيازات التي يتمتع بها حيث يعمل في القصر الجمهوري على اي شيء آخر .
الصوت الخارجي والحوار
لعل من اجمل مالجأ اليه المخرج وهو كاتب السيناريو ايضا هو لجوءه الى الصوت الخارجي عند كتابة رسائله لأبنه (voice over( فهو منح الفيلم مسارا سرديا مميزا فمن جهة رسخ الأيهام لدى المشاهد بأنه مجرد حنين من اب لأبنه وبذلك قاد المشاهد الى تتبع ما سجري لاحقا ومن جهة اخرى قدم معالجة منطقية لما سيلي من الهجرة وترك الديار في المقابل كانت الحوارات المتكررة لطارق مع زوجته عبر الهاتف ، وقد ذكرت للمخرج المبدع قتيبة الجنابي هذه النقطة وكذلك تحدثت مع المونتير الأنجليزي "وايت تيجر" وتمنيت لو ابتدأ فيلمه بعد المشهد العام لبغداد الصوت الخارجي لكتابة الرسالة بدل المحادثة التلفونية .
..............
لاشك ان كل ماذكره المخرج من مكابدات ومصاعب واجهته لأنجاز فيلمه واضحة ، وهي لم تنل من صبره واصراره على انجاز الفيلم ، فقد انجزه معتمدا تماما على امكاناته الذاتية في ميزانية متقشفة جدا ، ولم يحصل الا على دعم بسيط من مهرجان دبي السينمائي ساعده على اكمال المراحل الأخيرة ، لكن الفيلم مازال يحتاج الى ان ينقل الى نسخة 35 ملم وهو مايسعى المخرج جاهدا للوصول اليه من خلال تمويل هذه المرحلة من جهة ما .
............قتيبة الجنابي الذي تميز مصورا ومخرجا للأفلام القصيرة هاهو يطرح نفسه مخرجا واعيا وناضجا في هذا الفيلم الذي يفتح له افقا جديدا في مجال السينما الروائية نتطلع الى ان تتجذر اكثر وان يجد السبيل الى تمويل كاف لفيلمه المقبل لكي يتجاوز اي مشكلات ومصاعب فنية .
..........فاز الفيلم عن جدارة بالجائزة الأولى لمسابقة الأفلام الروائية الطويلة في مهرجان الخليج السينمائي الرابع الذي اختتم مؤخرا في دبي.